الإخلاص أساس قبول أي عمل، والله سبحانه أغنى الأغنياء عن الشرك، وإذا كان إخلاص النية شرط قبول الأعمال في حق العباد، فهو في حق الدعاة أشد وجوباً، فهو يتعامل مع قلوب الناس، والقلوب بين الرحمن يقلبها كيف شاء، فكلما كان العمل خالصاً لوجهه الكريم؛ سخر الله تلك القلوب فاستجابت له ولانت، فحاجة الداعية لتطهير قلبه من النفاق والرياء والسمعة وحب الظهور متجددة على الدوام كي ينجح في مهمته التي اختارها في إصلاح الخلق ورفع كلمة الله عالية خفاقة؛ يقول تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (البينة: 5)، وقال تعالى: (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (الأعراف: 29).
أهميته للداعية
فطن البخاري لأهمية النية والإخلاص لكل مسلم، فبدأ كتاب «الجامع الصحيح» بحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما الأعمال بالنيّات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه».
يقول الشيخ يوسف القرضاوي: إن على المسلم العامل للإسلام أن يفتش في زوايا قلبه عن حقيقة نواياه وبواعثه، فإن كان فيها حظ للدنيا أو للشيطان، جاهد أن ينفي قلبه من دخله، وأن يجرد نيته لله، وأن ينذر نفسه محرراً لربه، كما قالت امرأة عمران: (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (آل عمران: 35).
وهذه كلمة من أم مريم «محرراً» توحي بأن سُنة الله ألا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً من كل شركة، محرراً من كل عبودية لغيره، إن الحياة لا يسود فيها الحق، وينشر فيها الخير، وتعلو كلمة الإيمان، وتخفق أعلام الفضيلة بتجار المبادئ الذين لا يعملون إلا ليغنموا ويستفيدوا في الدنيا، ولا بالمرائين الذين لا يعملون إلا ليراهم الناس، ويسمعوا بهم، ويتحدثوا عنهم، ويشيروا إليهم بالبنان، بل ينتصر الحق والخير والغيمان والفضيلة، بالمخلصين الذين يعتنقون المبادئ مؤثرين مستأثرين مضحين لا مستفيدين معطين لا آخذين(1).
علامات الإخلاص
– عدم الحرص على الشهرة: الشهرة تغري صاحبها بالانزلاق للسمعة دون أن يشعر فيريحه الأمر ويسعد نفسه ومن ثم يبحث عنه، وهنا على الداعية أن يحدث نفسه بأن الأجر ليس إلا من الله، وأن الناس لا ينفعونه بشيء وإن اجتمعوا على الإشادة به.
– يستوي معه المدح مع الذم: يقول ابن القيم: لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس إلا كما يجتمع الماء والنار والضب والحوت، فإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص، فاقبل على الطمع أولًا، فاذبحه بسكين اليأس، وأقبل على المدح والثناء، فازهد فيهما زهد عشاق الدنيا في الآخرة، فإذا استقام لك ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح، سهل عليك الإخلاص، فإن قلت: وما الذي يسهل على ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح؟ قلت: أما ذبح الطمع، فيسهله عليك علمك يقينًا أنه ليس من شيء يطمع فيه إلا بيد الله وحده خزائنه لا يَملكها غيره، ولا يؤتى العبد منها شيئًا سواه(2).
– لا يبحث عن الأضواء: فهو يعمل في صمت، لا يشعر به الناس، يتوارى دائماً إلى الظلال، قال عبدالله بن المبارك: قال لي سفيان: إياك والشهرة، فما أتيت أحدًا إلا وقد نهاني عن الشهرة(3).
– يساعد غيره من الدعاة ويشيد بهم ويساندهم: الداعية المخلص حريص على نجاح المهمة الدعوية، سواء كان هو نفسه سبباً في النجاح أم كان غيره هو السبب، فيقوم بمدح إخوانه الدعاة حين يحسنون.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يمدح أصحابه في حال إحسانهم، فيقول عن صاحبه الصديق رضي الله عنه: «لو كنت متخذاً خليلاً غير ربي، لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخي وصاحبي»، وقال عن عمر: «لو سلكت فجاً لسلك الشيطان فجاً آخر»، وقوله صلى الله عليه وسلم عن أبي عبيدة: «أمين هذه الأمة».
– يبغض لله ويحب لله، ويغضب له ويرضى له: الداعية ينتبه لكافة خطواته ويحرص أن تكون لله خالصة، يحب ويكره، يعطي ويمنع، لله سبحانه، فلا يغضب لنفسه مهما لاقى من أذى سواء كان لفظياً أو نفسياً، ولا يغضب إلا أن تنتهك حرمات الله.
ثمرات الإخلاص
– النية الصالحة والمخلصة تجعل العمل البسيط عبادة لله يؤجر العبد عليها، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنك لن تنفق نفقةً تبتغي بها وجه الله إلا أُجرت عليها حتى ما تجعل في فم امرأتك» (رواه البخاري)، فتلك أعمال معتادة يفعلها المسلم بشكل طبيعي كل يوم، لكن حين يستحضر النية ويجعلها خالصة لله يتحول العمل لمصدر للحسنات.
– يؤجر الإنسان على نيته إن لم يستطع إكمال عمله حتى بلوغ درجة الشهداء، وفي ذلك قال صلى الله عليه وسلم: «من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه» (رواه مسلم).
– يرفع الله عنه أي كرب حادث، فيقول تعالى: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) (يوسف: 23).
– شرط قبول العمل وطريق إلى الجنة؛ يقول تعالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) (الكهف: 110)، وعن عثمان بن عفان قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: «مَن بنى مسجدًا يبتغي به وجهَ الله، بنى الله له مثله في الجنة» (رواه البخاري، ومسلم)، وعن أبي موسى الأشعريِّ قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الرجلُ يقاتل حميةً، ويقاتل شجاعةً، ويقاتل رياءً (ليراه الناس ويثنوا عليه)، فأي ذلك في سبيل الله؟ قال: «مَن قاتَل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله» (رواه البخاري، ومسلم).
– يعصم العبد من الشيطان؛ قال تعالى: (قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ {75} قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ {76} قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ {77} وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ {78} قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ {79} قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ {80} إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ {81} قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ {82} إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (ص).
كيفية تحقيق الإخلاص في القلب والسلوك؟
1- مراقبة الله عز وجل: يقول تعالى: (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (الحديد: 4).
2- مصاحبة الصالحين: المرء على دين خليله.
3- أن يستحضر الداعية أن النفع والضر إنما هو بيد الله وحده لا بيد البشر.
4- والدعاء والاستعانة بالله هو أقصر طريق لله عز وجل.
_____________________
(1) النية والإخلاص، القرضاوي، ص69.
(2) الفوائد، ابن القيم، ص 218 – 219.
(3) حلية الأولياء (7/ 23).