ثارت في الكويت الشقيقة مؤخراً زوبعة مدروسة حول الجمعيات الخيرية الإسلامية، وذلك ضمن سياسة «تجفيف المنابع»، في محاولة للقضاء على العمل الخيري الإسلامي الذي نجح الإسلاميون فيه -والحمد لله- نظراً لخوفهم من الله، وشعورهم بمراقبته لهم، ولإيصال الأمانات والأموال لأهلها، ولا نزكيهم على الله.
وبودي أن أقدم شهادة أمامه -سبحانه- عن هذه الجمعيات، والقائمين عليها، فلست كويتياً، ولم أزر الكويت في حياتي، غير أنني لا أريد أن أكتم هذه الشهادة.
لقد تعرفت إلى الأعمال الإغاثية الكويتية في أفغانستان، ورأيت عمل «لجنة الدعوة الإسلامية»، وكان عملاً جيداً مخططاً له، وشمل مستشفى في بيشاور، ومستوصفات عدة على الحدود، ومعالجة للمهاجرين وسيارات الإسعاف التي تنقل المصابين من الأهالي، وطعاماً يوزع، ومدارس تفتح، وحرفاً تعلم، وعملاً مخططاً هادفاً، ودورات لتحفيظ القرآن للأولاد والبنات وعناية بالحامل والمرضع من المهاجرين وعناية بالطفل.
كما ذهبت مع أحد الإخوة السعوديين لمقر اللجنة في بيشاور، وكان يديرها الأخ زاهد شيخ، وحرر الأخ السعودي شيكاً بمبلغ كبير جداً، وقال: «هذا تبرع لأيتام أفغانستان»، ففوجئت بزاهد شیخ يقول له: ليس عندنا برنامج أيتام وسأدلك على أحسن من يقوم بالمهمة في أفغانستان، ثم اصطحبنا إلى لجنة الإغاثة الإسلامية «إسراء» وكان عندها بالفعل أفضل برنامج الرعاية الأيتام وتسلموا الشيك من الرجل.
وهكذا.. لم أر هذا التخصص، وهذه الدقة في أي جمعية إغاثية أخرى حتى الغربية منها عندما ترى «شيكاً»، بمبلغ كبير، فإنها تقول: سنقوم بالأمر، لكن التخصص جيد والتعاون أفضل والأمانة تامة.
ثم رأيت -والله- كيف كان العاملون في الإغاثة يعيشون؟
لقد دمعت العين لتجرد هؤلاء.. لا والله لا يمكن لأي فرد منهم أن يقبل العيش في الكويت الحبيبة في بيت كهذا البيت، ولكنه الإخلاص والعمل لله.
وبدأت صلتي بهؤلاء الأحباب بعد هذه التجربة وبعد رؤية كيف يصرف المال؟
وكنت أطلب من العاملين في الإغاثة بالدول العربية والإسلامية أن يقلدوا التجربة الإغاثية الكويتية لنجاحها وخبرتها.
وجاءت مشكلة البوسنة، فسافرت هناك، حيث رأيت التجرد والإخلاص، ومراقبة الله وخشيته وكنا -والله- نجلس في الفنادق على حسابنا أكثر من شخص في الغرفة الواحدة، ولا نفعل هذا عند سفرنا الشخصي، بينما كنا نرى المصاريف الإدارية والسهرات التي يرتع فيها موظفو الإغاثة الغربية.. سفرات بالدرجة الأولى بذخ ومصاريف أكل في مطاعم فاخرة، والفرق أن الغربيين يحسبون «الشيكات» على المصاريف الإدارية.
أما الإسلاميون، فإن كانت دعوة على حساب أحدٍ أجابوها، وإلا فإن تكاليف طعامهم على حسابهم الشخصي وليس من التبرعات.
ولقد انتبه الإخوة في الإغاثة والجمعيات الخيرية الكويتية لمشكلة كوسوفا قبل سنوات طويلة وعملوا في ألبانيا قبل غيرهم، وكان عملهم ملحوظاً وظاهراً.
فليتبرع أي منتقد للجمعيات الخيرية بخمسين ديناراً كويتياً، ثم ليرَ بعدها التقرير يقول: كيف صرفت؟ وأين صرفت؟ مع صورة موثقة: آبار المياه، وخلوات تحفيظ القرآن، والمدارس، والمعاهد، والمستوصفات باسم من تبرع.. والعمل دائم في جميع أنحاء العالم؛ لكن بعض من يتحرك بـ«الريموت كنترول» ممن لا يعملون ولا يتركون الناس يعملون يهاجمون هؤلاء!
أذكر أنني كنت قبل سنوات في مؤتمر بالغرب، وكان أحد المسؤولين الأمريكيين يتحدث في جلسة خاصة عن سياسة «تجفيف المنابع»، وذلك في طور رسم السياسة قبل التنفيذ في عالمنا الإسلامي بسنوات خمس فقلت له: لقد أعجبني كلامك جداً، وحولني إلى معجب بالعقلية العربية حتى قبل الإسلام، ذلك أن الجاهليين العرب سبقوكم في هذه السياسة بالقول: (لَا تُنفِقُوا عَلَىٰ مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّوا) (المنافقون: 7)، فسياسة كف الإنفاق أو تجفيف المنابع سياسة جاهلية بدليل الآية القرآنية.
فقال: أهي في القرآن بالله عليك؟ ففتحت ترجمة لمعاني القرآن، وقرأت الآية فقال: كتابكم عجيب!
قلت: والأعجب أن سياسة وقف الإنفاق أو تجفيف المنابع لم تمنع العرب من الإسلام! أنتم تفكرون كغربيين، وحياتكم تعتمد فقط على المال، مع أن هؤلاء ما جاؤوا لمال، وإنما بايعوا للجهاد في سبيل الله، باعوا الأنفس لله.. والثمن الجنة والخلود.
وأعود فأقول: إن الهجوم على الجمعيات الخيرية الكويتية يدخل ضمن سلسلة المخططات المدروسة لمحاربة المد الإسلامي، ونصيحة لمسؤولي العالم الإسلامي: لا تسمعوا للخبراء الأجانب اتركوا العمل علنياً، وإلا سيعود سرياً، ولن تستطيعوا -والله- أن تراقبوا شيئاً، فنحن لا نثق إلا بمن يخاف الله ولن نتبرع إلا لجمعيات يخاف القائمون عليها الله ويراقبونه.
هذه شهادة أقدمها بين يدي الله تعالى، لقوله تعالى: (وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ ۚ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) (البقرة: 283)، ولم أكن في يومٍ ما موظفاً في أي جمعية خيرية كويتية، أو في غيرها، كما أنه لا علاقة لي بأي منها، وقد قصرتها على الكويت لملاحظتي إخلاص العمل الخيري الكويتي، ونجاحه، وتوفيقه.
حفظ الله هذه الجمعيات، والقائمين عليها، ونصر الله دينه وأعز جنده(1).
_______________________
(1) صاحب هذه الشهادة مجاهد محمد الصواف، نُشرت في العدد (1363)، 6 جمادى الأولى 1420هـ/ 17 أغسطس 1999م.