لكل علم من العلوم المرتبطة بجوانب الحياة الإنسانية أركان يعتمد عليها ويستند إليها، وإن علم السياسة يرتكز على ثلاثة أركان، هي: السائس، والمَسوس، والمُساس به، وبيانها فيما يأتي(1):
الأول: السائس:
هو المسؤول الذي يتولى المنصب، سواء كان المنصب عاماً أو خاصاً، وذلك لما روي عن عبدالله بن عمر أنَّهُ سَمِعَ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ ومَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ؛ فَالإِمَامُ رَاعٍ وهو مَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ، والرَّجُلُ في أهْلِهِ رَاعٍ وهو مَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ، والمَرْأَةُ في بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وهي مَسْؤُولَةٌ عن رَعِيَّتِهَا، والخَادِمُ في مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ وهو مَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ»، قالَ: فَسَمِعْتُ هَؤُلَاءِ مِن رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأَحْسِبُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالَ: والرَّجُلُ في مَالِ أبِيهِ رَاعٍ وهو مَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ، فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ»(2).
ويتبين من ذلك أن كل شخص تحت يده رعية، فإنه سائس لها يجب عليه أن يسوسها وفق أصول الشرع ومقاصده، والسائس قد يكون هو رئيس الدولة أي الحاكم أو الملك، وقد يكون أميراً على إقليم من أقاليمها، أو وزيراً على مرفق من مرافقها، أو غير ذلك كمدير الجامعة وعميد الكلية، والمعلم بين طلابه، ونجد أن السائس تختلف درجته قوة وضعفاً حسب سلطته وولايته، فكلما كانت سلطته أكثر وولايته أكبر كانت مسؤوليته أعظم فكان عليه أن يسوس الرعية بالسياسة المناسبة لهم.
الثاني: المَسوس:
يقصد بالمَسوس الرعية التي تحت السائس، فإن كان السائس هو الحاكم؛ فالرعية هم الشعب، وإن كان السائس هو الأمير في الإقليم، فالمسوس هم الرعية الذين تحت ولايته في هذا الإقليم، وإن كان السائس هو مدير الجامعة، فالمسوس هم أعضاء الجامعة ومنسوبوها وطلابها، وإن كان السائس هو المفتي، فالمسوس هو المستفتي، سواء كانت الفتوى عامة أو خاصة، وإن كان السائس هو القاضي، فالمسوس هم الخصوم المتداعون عنده.
وعلى المسوس طاعة سائسه، وهذا من الأمور المجمع عليها التي دلت عليها النصوص من الكتاب والسُّنة، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) (النساء: 59)، وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَن أطَاعَنِي فقَدْ أطَاعَ اللَّهَ، ومَن عَصَانِي فقَدْ عَصَى اللَّهَ، ومَن يُطِعِ الأمِيرَ فقَدْ أطَاعَنِي، ومَن يَعْصِ الأمِيرَ فقَدْ عَصَانِي»(3).
ضوابط الطاعة بين السائس والمسوس
تظهر ضوابط الطاعة بين السائس والمسوس فيما يأتي:
1- أن تكون أوامر السائس متفقة مع الأحكام المنصوص عليها، والقواعد التي أقرتها الشريعة الإسلامية، وبألا تكون مخالفة لشيء منها، وقد دلّ على هذا الحد حديث البخاري ومسلم عن عبدالله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «علَى المَرْءِ المُسْلِمِ السَّمْعُ والطَّاعَةُ فِيما أحَبَّ وكَرِهَ، ما لَمْ يُؤْمَرْ بمَعْصِيَةٍ، فإذا أُمِرَ بمَعْصِيَةٍ فلا سَمْعَ ولا طاعَةَ».
وروى البخاري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: بَعَثَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم سَرِيَّة، فَاسْتَعْمَل رَجُلًا مِنَ الأنْصَارِ وأَمَرَهُمْ أنْ يُطِيعُوه، فَغَضِب، فقال: أليسَ أمَرَكُمُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنْ تُطِيعوني؟ قالوا: بَلَى، قال: فاجْمَعوا لي حَطَبًا، فجمعوا، فقال: أوْقِدُوا نَارًا، فأوْقَدوها، فقال: ادْخُلوها، فَهَمُّوا، وجَعَلَ بَعْضُهُمْ يُمْسِك بَعْضًا، ويَقولون: فَرَرْنَا إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ النَّار، فما زالوا حتَّى خَمَدَتِ النَّار، فَسَكَن غَضَبُه.
فَبَلَغ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: «لو دَخَلُوها ما خَرَجُوا منها إلى يومِ القيامة، الطَّاعَة في المعروف».
وقال صلى الله عليه وسلم: «لا طاعةَ في معصية الله، إنما الطاعةُ في المعروف»، والذي يقوّم هذا الحد هم أهل العلم والاختصاص الشرعي، فيحكمون على هذا التصرف بأنه مخالف وليس له أصل شرعي ينبني عليه، وعلى الآخر بأن له مستنده من أحكام الشريعة وقواعدها ومقاصدها، لذا كان الأصل في تصرفات السائس أن تكون موافقة وغير مخالفة إن ثبت العكس، فعلى العلماء أن يبينوا هذه المخالفة حتى يعلم بها الرعية.
2- أن تكون أوامر السائس محققة للمصلحة العامة، فإن كان أمره متعلقاً بمصلحة خاصة للسائس، أو أنه لا يحقق مصلحة بتاتاً، فحينئذ لا تجب الطاعة، ومردّ هذا أيضاً إلى قاعدة فقهية في السياسة الشرعية هي: «تصرف الإمام على رعيته منوط بالمصلحة»؛ وهي قاعدة متفق على اعتبارها.
وهذا الحد يقوّمه ويحدده أهل الحل والعقد وأهل الخبرة والاختصاص، كل بحسبه، فهم الذين يقدّرون المصلحة ويبينون وجه مخالفة التصرف لها، وأنه لا يحققها بل قد تترتب عليه مفاسد أعظم، أو أن هناك مصلحة أخرى أولى وأقوى منه، وفي الحالة الأولى وهي: إذا كان أمر السائس لا يحقق مصلحة أو كان يترتب عليه مفسدة أعظم، وبيَّن أهل الخبرة والاختصاص ذلك واتفقوا عليه، فإن طاعة ولي الأمر في هذه الحالة تكون غير واجبة.
الثالث: المساس به:
وهي الأحكام والأوامر والنواهي التي تصدر من السائس تجاه رعيته، وهذه الأوامر قد تصدر بشكل رسمي ومكتوب، وقد لا تكون كذلك وإنما تكون أمراً مباشراً من ولي الأمر، ومن ذلك ما جاءت به الأوامر القرآنية أو الأحاديث النبوية الشريفة المتعلقة بتسيير أحوال الناس العامة أو معالجة مشكلاتهم وقضاياهم، وكذلك من المساس به ما تذخر به كتب الخلفاء والأمراء من توجيهات بعضها منبثق من الشرع الشريف وبعضها جاء تلبية للاحتياجات أو حلاً للمشكلات، فكان مراعاة للمصلحة العامة للرعية، ومن الأمثلة على هذا الركن في العصر الحديث: الأنظمة واللوائح والقرارات ونحو ذلك من الأوامر والتوجيهات المتعلقة بالسياسة الشرعية.
________________________
(1) محاضرات في السياسة الشرعية: د. عبد الله بن إبراهيم الناصر، ص 20.
(2) أخرجه البخاري (2554)، ومسلم (1829).
(3) أخرجه البخاري (2957)، ومسلم (1835).