يعد علم الفقه بمثابة الوعاء الذي يضم العديد من العلوم، كعلم القضاء، والمواريث والسياسة الشرعية وغيرها من العلوم التي استقلت عن علم الفقه مع وجود الصلة القائمة بينهما، ويتبين ذلك فيما يأتي(1):
يعرف الفقهاء والأصوليون الفقه بأنه العلم بالأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد، وقيل هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية(2)، وهي الكتاب والسُّنة والإجماع(3) والقياس(4).
وإننا في هذا المقام نؤكد أن أحكام الوقائع التي لا نص فيها أو قياس، أو التي ورد فيها نص ولكن من شأنها التغيير والتبدل بإشارة النصوص التي تفيد إلى ذلك التغيير والتبدل، هذه الأحكام يثبت الحكم فيها بقواعد عامة وأدلة اعترفت الشريعة بصلاحيتها لبناء الأحكام عليها، واستنباط الحكم بواسطتها، مثل المصالح المرسلة(5)، وسد الذرائع(6)، والعرف(7)، والاستحسان(8).
فإذا جرينا على أن غير الأدلة الأربعة من المصالح المرسلة وغيرها راجعة إلى الأدلة الأربعة، وهي الكتاب والسُّنة والإجماع والقياس؛ كانت الأحكام الثابتة بواسطتها من الفقه، وتكون السياسة الشرعية حينئذ جزءاً من الفقه، وتكون النسبة بين الفقه والسياسة الشرعية: العموم والخصوص الوجهي، بحيث يجتمعان في الأحكام الثابتة بغير الأدلة الأربعة، وهي أحكام السياسة الشرعية، وينفرد الفقه في الأحكام الثابتة بالأدلة الأربعة.
وإن جرينا على أن المصالح المرسلة وسد الذرائع وغيرهما ليست راجعة إلى الأدلة الأربعة التفصيلية، وإنما هي أمارات أو قواعد عامة مستقلة وضعها الشارع لإثبات الأحكام فيما لا نص فيه؛ كانت الأحكام الثابتة بها غير راجعة إلى الفقه، وتكون النسبة حينئذ بين الفقه والسياسة الشرعية هي التباين.
ولكننا نرجح أن غير الأدلة الأربعة من المصالح المرسلة وغيرها راجعة إلى الأدلة الأربعة من حيث حجيتها، واعتبارها طريقاً لاستنباط الأحكام، كما رجح ذلك كثير من الأصوليين، فيكون الفقه هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المستنبطة من الأدلة التفصيلية، وما يرجع إلى هذه الأدلة التفصيلية من المصالح المرسلة وغيرها، فتكون السياسة الشرعية حينئذ جزءاً من الفقه.
لماذا سمي هذا الجزء من الفقه بالسياسة الشرعية، وأصبح علماً مستقلاً؟
إن تسمية هذا النوع من الأحكام باسم السياسة أمر اصطلاحي، روعي فيه المناسبة بين لفظ السياسة وهذا النوع من الأحكام، فإن معنى السياسة في اللغة تدبير الشيء بما يصلحه، وهذا المعنى متحقق في هذا النوع من الأحكام، لأن معظم أحكام هذا النوع يحتاج إليها الحكام وولاة الأمور في تدبير شؤون الأمة على وجه يحقق لها المصلحة، وتحقيق المصلحة للأمة هو الركن الأساسي الذي يقوم عليه هذا النوع من الأحكام، أما إفرادها بالبحث في علم مستقل فيرجع إلى الأمور الآتية:
1- أن أحكام السياسة الشرعية يربطها اتجاه خاص، يجعلها متميزة عن غيرها من الأحكام الفقهية، وهو مراعاة المصلحة في استنباط الأحكام التي تدبر بها شؤون الأمة، لما يجدّ من وقائع لم ينص على حكمها، أو التي من شأنها أن تتبدل وتتغير، والاتجاه الخاص الذي نعنيه هو موضوع علم السياسة الشرعية، ومن المقرر لدى المصنفين أن العلوم تتميز بتميز موضوعاتها ومسائلها.
2- أن إفراد مسائل السياسة الشرعية بالبحث في علم مستقل ييسر دراستها وسبل الاطلاع عليها، وفي ذلك عون كبير للدارسين والباحثين، ولا بدع في هذا، فقد سلخت أجزاء من الفقه تربطها وحدة خاصة، وتتميز مسائلها وموضوعاتها بطابع خاص، وأفردت بالبحث في علوم مستقلة قائمة بذاتها، مثل علم الفرائض والمواريث، وعلم التوثيقات الشرعية، وعلم القضاء، فإن هذه العلوم أجزاء من الفقه، وأفردت بعلوم مستقلة، تسهيلاً للبحث وتيسيراً على الدارسين.
3- أن الفقهاء قد أهمل بعضهم الكلام على مباحث هذا النوع من الأحكام، وقصّر البعض الآخر منهم، فلم يستوعب الكلام عليها، لذلك أفرد لها بعض الفقهاء كتباً خاصة، تعرف باسم: الأحكام السلطانية، وباسم السياسة الشرعية(9).
وفي هذا الإطار، ننبه إلى أن ما يذكر في هذه الكتب من أحكام فقهية مقصود به ربط ما جاء من أحكام فقهية ثابتة بأحكام السياسة الشرعية، توطئة لبحثها، ومدخلًا لها، وذلك لارتباطهما بموضوع واحد، ففي كتاب «الخراج» للإمام أبي يوسف صاحب أبي حنيفة يتعرض لبيان ثبوت الخراج بالاجتهاد من عمر رضي الله عنه، وموافقة مستشاريه، هو يعني أنه ثابت عن طريق السياسة الشرعية، كما يذكر بعض أحكام الخراج الفقهية أيضاً.
كما أن كتب الفقه التي ألفها فقهاؤنا القدامى اشتملت على الأحكام الفقهية والأحكام السياسية دون تمييز بينها، ولعل الله سبحانه وتعالى يوفق بعض الفقهاء المعاصرين لجمع مسائل السياسة الشرعية من بطون كتب الفقه وإفرادها بكتب مستقلة، ففي ذلك فائدة علمية كبرى، ونسأل الله تعالى التوفيق.
________________________
(1) المدخل إلى السياسة الشرعية: د. عبد العال أحمد عطوة، ص 63.
(2) المفردات: الراغب الأصفهاني، ص 384. والتعريفات للجرجاني، ص 175.
(3) الإجماع هو: اتفاق المجتهدين من الأمة الإسلامية في عصر من العصور بعد النبي صلى الله عليه وسلم على حكم شرعي في أمر من الأمور العملية. راجع: أصول الفقه: محمد أبو زهرة، ص 182.
(4) القياس هو: إلحاق أمر غير منصوص على حكمه بأمر آخر منصوص على حكمه للاشتراك بينهما في علة الحكم. المصدر السابق، ص 200.
(5) المصالح المرسلة هي: المصالح الملائمة لمقاصد الشارع الإسلامي، ولا يشهد لها أصل خاص بالاعتبار أو الإلغاء. المصدر السابق، ص 252.
(6) الذرائع هي: ما يكون طريقاً لمحرم أو لمحلل، فإنه يأخذ حكمه، فالطريق إلى الحرام حرام، والطريق إلى المباح مباح. المصدر السابق، ص 259.
(7) العرف هو: ما عتاده الناس من معاملات واستقامت عليه أمورهم. المصدر السابق، ص 247.
(8) الاستحسان هو: أن يعدل المجتهد عن الحكم في المسألة بمثل ما حكم به في نظائرها، لوجه أقوى يقتضي العدول عن الأول، المصدر السابق، ص 238.
(9) الأحكام السلطانية والولايات الدينية: أبو الحسن الماوردي، ص 224.