الفن مرآة المجتمع وذاكرته، والأدب المكتوب نوع من التأريخ الاجتماعي لأي أمة، سواء كان أدباً قصصياً أو نثرياً أو شعرياً.
وقد اهتم القرآن الكريم بالعرض القصصي لأحداث التاريخ والصراعات الإنسانية بين فكرة الخير والشر، والسماء والأرض، والروح والجسد، ثم انتصار الحق في طريقه الطويل الذي يبدأ في الدنيا وينتهي عند العرض على الجبار يوم القيامة، منها قصص للأنبياء، وقصص الطغاة، وقصص الغابرين من الصالحين والطالحين، واصفاً بدقة الحياة داخل القصور حين يعتريها الفساد والصراع على الحكم والمال والمكانة، ومس النفس الإنسانية وسموها ومجدها حين تتعلق بالسماء فلا يؤثر فيها مؤثر مادي مهما بلغت قوته، ووصفها حين تهبط بها شهوتها فلا تجدي معها مشاعر العار والذنب والخوف من الله أو من أحاديث الناس لتتوغل أكثر في الهبوط فتدعو هؤلاء الخائضين للمشاركة في الإثم.
فنجد مثال الرقي في يوسف عليه السلام، ذلك الشاب الغريب الذي لم يغره القصر، ومكانة امرأة العزيز ونفوذها، المرأة الجميلة القوية مسموعة الكلمة ولها كامل الدلال على ذويها، وقد اتضح ذلك فيما بعد حين تغاضوا عن جريمتها؛ (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَٰذَا ۚ وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ ۖ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ) (يوسف: 29).
يستعصم الشاب يوسف، وتهبط الزوجة التي قد أحبته حد الشغف، وبينما كان هو يرتقي، كانت هي تهبط لأسفل الدرك حين تستدعي نساء الطبقة العليا ليعرفن حجم ما تحدثن عنه.
وحين رأينه، أكبرنه، فيكبر ويصغرن كما صغرت هي من قبل، ثم يرسم مشهد سجن البريء الذي اعتادته البشرية وما زالت؛ (ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّىٰ حِينٍ) (يوسف: 35)، أدق دقائق النفس الإنسانية عرضها القرآن في قوالبه القصصية مخاطباً النفس المختلطة بين الطين والروح، فلا يثير غريزة، ولا ينكر على الإنسان طباعه، هو فقط يهذبها، ويوجهها للصراط السوي، هو يبرز المشكلة القائمة ولا يصنعها، بل يبين الحلول، ويوضح الطرق، ويضيء للنفس سبيلها.
الأدب القصصي المعاصر والتشويه التاريخي المتعمد
تعرضت الكثير من الروايات المعاصرة لأحداث تاريخية مستقاة من كتب التاريخ القديمة في قوالب درامية تجذب القارئ لها، ومن الممكن أن تشوه الفكة الأساسية، وفي بعض الأحيان تخضع لهوى الكاتب فيقوم بتأويل الأحداث وتفسيرها حسب أيدولوجيته الخاصة فتضيع الحقيقة التاريخية خاصة إذا كان قد مر زمانها أو ضاربة في عمق التاريخ.
فمنها من ساهم بشكل كبير في تزييف التاريخ، ومنها ما زين فساده وقدمه في صورة تخالف الحقيقة إذا اتفقت مع ميول الكاتب، وقد لا يقصد الكاتب الكذب أو يتعمده، وإنما هو يستند إلى حدث تاريخي ما، ثم يطلق لخياله العنان في الإبداع، فتكون الحكاية، أو «الحدوتة» مختلفة تماماً عن أحداث التاريخ الحقيقية.
ويكون الحدث التاريخي معبراً فقط عن الفترة الزمنية أو الظرف المكاني الذي تمت فيها أحداث الرواية، وقد يتطاول الكاتب باسم الإبداع خاصة فيما يتعلق بأحداث وتاريخ ديني، فيدخل بالقارئ لتغيير بعض القناعات التي تتداخل مع التشريع الديني بالحل والحرمة.
فحين تقرأ بعض الروايات للكاتب جورجي زيدان(1)، الذي أبدع في الإساءة إلى التاريخ الإسلامي، وقد أوقف نفسه لتلك المهمة، يأخذك الوصف بعيداً عن سلوك المسلم ومعتقده وأخلاقياته، ولا يفطن لتلك الاتجاهات إلا قارئ متمرس للتاريخ الإسلامي، فهو نوع من التآمر غير المبرر على تاريخ ناصح وواضح وبين ووصل إلينا محفوظاً دون نقص وإن اعترته بعض الزيادات الموضوعة عمداً التي يسهل تمحيصها على القارئ العادي.
لكن الأجيال الجديدة التي استبدلت قراءة منشورات وسائل التواصل الاجتماعي القصيرة والسريعة بقراءة الكتب، يمكن أن تسقط فكرياً ضحية مثل تلك الروايات المغلوطة والمكذوبة والمنسوبة ظلماً للتاريخ الإسلامي، حيث عرض الرجل صورة المجتمع المسلم في العهد النبوي بالمدينة المنورة، بالمجتمع المختلط والمرأة السافرة والبيوت الماجنة، فتلك نوعية من الأدب القصصي المشوه للحقيقة التاريخية بتناوله جانباً أخلاقياً مغايراً للحقيقة الواقعة في ذلك الزمان.
«ثلاثية غرناطة».. بين إبداع كاتب والحقيقة التاريخية
فارق كبير بين كاتبين، وبين إبداعين، فلا أحد يستطيع أن يدعي أن جوجي زيدان غير مبدع، لكنه مبدع يحمل هوية أخرى غير تلك التي يروي عنها في مؤلفاته، هوية لا يدين بها وثقافة لا ينتمي إليها، ولن نتدخل في النوايا الخاصة بالكاتب، لكن المنتج الأدبي مخالف تماماً للواقع، ومضاد لحقيقة ثقافته التي عايشها الحدث تاريخياً.
وعلى صعيد آخر، نقرأ الرواية الطويلة «ثلاثية غرناطة» للكاتبة المبدعة رضوى عاشور(2)، وبالرغم من محاولة الكاتبة تقديم وصف تفصيلي دقيق لكل ما تدور حوله الرواية حتى وصف الدور والشوارع وملابس أبطالها ونوعية الطعام وحتى مذاقه، حيث تنقلك الرواية إلى بلاد الأندلس التي توشك على السقوط، كأنك ترى لا تقرأ.
وتلك الميزة تتفق مع روايات زيدان، لكن الفارق أنها قدمت العمق الإنساني لا ظاهره، الروح لا الجسد، كشفت المشاعر بأحزانها وأفراحها واشتياقها وحتى بشرورها، ولم تكشف عورة الإنسان الظاهرية، فكما مر بنا أن شخصية الكاتب وثقافته هي المؤثر الأول على المنتج الأدبي، فقد أثرت شخصية الكاتبة في روايتها.
يقول الكاتب عماد الدين محمد عويس عشماوي(3)، في قراءته للرواية: تعد رواية غرناطة رواية تاريخية ملحمية تحاول أن تقدم حكاية سقوط واحدة من أشهر المدن الإسلامية في التاريخ من خلال المزج بين الأحداث السياسية والوقائع الاجتماعية.
قدمت رضوى عاشور أجواء سقوط غرناطة من خلال رؤية الناس العاديين، وكيف تبدلت حياتهم وانقلبت كل أمورهم من خلال تتبع سيرة أسرة غرناطية هي أسرة أبو جعفر الوراق.
ومع كون الرواية تاريخية فإنها لا تعنى بتقديم التاريخ للقارئ بالدرجة الأولى؛ لأن وثائق التاريخ كفيلة بأداء هذه المهمة، وإنما تكمن قيمتها في مدى براعة الكاتبة في استغلال الحدث التاريخي واعتماده إطاراً ينطلق منه لمعالجة قضية حية من قضايا مجتمعه الراهنة(4).
والقارئ للرواية بروية يشعر وكأن التاريخ يعيد نفسه بتكرار نفس المقدمات وينذر باحتمالية الوصول لنفس النتائج في الوقت الذي تعاني فيه الأمة من نفس الأمراض التي اعترتها وقت أحداث الرواية المذكورة، ربما وقعت الروائية في نفس ما وقع فيه معظم الكتَّاب من قيد الثقافة والهوية، لكنها تفوقت على نفسها حين تخيرت زاوية إنسانية لا يختلف عليها منصفان، وهو الجانب الإنساني الأخلاقي بمشاعره المتضاربة وأهدافه السامية.
ولا يختلف التناول الأدبي في الفن القصصي كثيراً عن ألوان الفنون الأدبية والإبداعية الأخرى كالشعر والنثر والمقال الأدبي عما ورد في هذا المقال، حيث إن الأدب التاريخي يخضع لكثير من المؤثرات الشخصية والعامة حول الكاتب، وأن العامل الثقافي له التأثير الأعلى في أي رواية مكتوبة بالرغم من القضايا التي تعرض لها الأدب قديماً وحديثاً، لكننا لا نستطيع أن نطلق على رواية ما أنها تاريخ يمكن اعتماده كمصدر علمي معتب، بل هو حكاية تشير لأجواء عامة في ذلك الزمان والمكان يمكن البناء عليها من خيال القارئ، وإبداع الكاتب.
__________________
(1) أديب وروائي ومؤرخ وصحفي لبناني، أجاد فضلاً عن اللغة العربية؛ اللغة العبرية والسريانية والفرنسية والإنجليزية، أصدر مجلة «الهلال» التي كان يقوم بتحريرها بنفسه في ربيع الأول 1310هـ/ 1892م، ونشر فيها كتبه.
(2) ولدت في القاهرة عام 1946م، وبعد دراستها للأدب الإنجليزي في جامعة القاهرة وحصولها على الماجستير في الأدب المقارن، سافرت إلى الولايات المتحدة لتنال الدكتوراة في الأدب الأفريقي، ليكون أول إعلان عن انحيازها لقضايا التحرر الوطني، وهو الطريق الذي سارت فيه عندما نشرت أول أعمالها النقدية بعنوان «الطريق إلى الخيمة الأخرى»، وهي والدة الشاعر الفلسطيني تميم البرغوثي.
(3) رئيس مؤسسة بذور الثقافية، باحث في الشؤون السياسية والثقافية، ينجز حالياً رسالة ماجستير عن المشروع الحضاري المستقل في فكر عبد الوهاب المسيري، ومهتم بأسباب إخفاق العرب في النهوض، وكيفية إعادة بناء العربي المعاصر ثقافياً وسياسياً واجتماعياً ليكون مؤهلاً لإنجاز نهضته المأمولة.
(4) السيد شفيع، اتجاهات الرواية العربية.