تحرير العقل يسبق تحرير الأرض، وكل حركة تحرير لا بد أن تبدأ في العقل قبل الواقع، وأوهام التاريخ من أقسى القيود التي تحجر على العقل، وتعطل ملكاته في التفكير والنقد، وتجبره على السير في مسارات السابقين دون شرعية من مصلحة أو منفعة، رغم أن الرؤية القرآنية ترفض اتباع الآباء الأولين دون نقد وتمحيص لتجربتهم.
الأسطورة والتاريخ
عرفت البشرية الأساطير منذ بداياتها الأولى، وأدت دوراً مهماً في حياة الناس من حيث بناء وتشكيل الهوية الوطنية، وتعزيز الإيمان، وتبرير الأفعال، وتحديد موصفات العدو، وربما كان هنري شارل ليا، مؤرخ «محاكم التفتيش»، أكثر وضوحاً عند الحديث عن تأثير الأسطورة على أذهان الناس ودفعهم للقتل بلا رحمة ولا شفقة، عندما قال: «لم تكن الحياة في نظر الجميع سوى نقطة في الأبدية، وكانت كل المصالح تتحول إلى لا شيء، بالمقارنة مع الواجب المُلح لإنقاذ القطيع، وذلك بمنع الخراف المصابة من نقل عدواها»، فهذه الأسطورة سيطرت على الأذهان ودفعت للتعصب، فكان الزوج يشي بزوجته، أمام محاكم التفتيش دون أن يهتز ضميره، وظن هؤلاء المتعصبون أن التنكيل بالآخرين هو فعل من أفعال المحبة.
يقول ليا: «وكان أي شعور بالشفقة تجاه الضحايا لا يمكنه أن يردع حتى أكثرهم محبة عن أفظع قساوات العدالة»، وعلى مدار مئات الأعوام سيطرت تلك الأسطورة على الكثير من النفوس، ونزعت منها الرحمة والشفقة.
وهذا ما أكده أيضاً الفرنسي بيار كونيسا في كتابه «صناعة العدو: كيف تقتل بضمير مرتاح؟!»، فالأساطير صنعت لخلق عدو ما، ثم شرعنت العنف لقتله والتخلص منه، وشرعنت شن الكثير من الحروب وانساق الناس وراءها، فمثلاً ما يسمى بنظرية «عبء الرجل الأبيض» التي ظهرت خلال القرن التاسع عشر، وبررت الاستعمار تحت دعوى أن هذا عبء على الرجل الأبيض لتمدين الشعوب المتخلفة، وكان هؤلاء يؤمنون أن أجناس البشر غير متساوي القيمة، فهناك أجناس عليا، وأجناس دنيا، فيرون أن الجنس الأبيض متفوق بيولوجيا.
وحينما كتب الإنجليزي روديارد كبلنغ قصيدته «عبء الرجل الأبيض» عام 1899م، رحبت بها السياسة الأمريكية، وشنت حرباً وحشية على الفلبين، وعرض، حينها، السيناتور الأمريكي ألبرت جيه بيفريدج على مجلس الشيوخ الأمريكي مبرراته الإلهية الخاصة للحرب على الفلبين، وكان يعتقد أن الأمريكيين هم شعب الله المختار، وقال: «لم يكن الله يُعِد الشعوب الناطقة بالإنجليزية والتيوتونية منذ ألف عام لمجرد التأمل الذاتي العقيم والإعجاب بالذات، لقد جعلنا ماهرين في الحكم حتى نتمكن من إدارة الحكم بين الشعوب المتوحشة»، وتأسيساً على أسطورة الشعب المختار وعبء الرجل الأبيض، أرسلت الولايات المتحدة 126 ألف جندي للقتال في الفلبين عام 1899م، في حرب استمرت 3 سنوات، وقتل فيها أكثر من ربع مليون فلبيني.
كانت تلك الأساطير حجاباً يخفي وراءه الهمجية والقتل والعنف، ويفسر المؤرخ جوزيف لوكونتي أن القهر تحول إلى عقيدة سيطرت على المجتمع الأوروبي طيلة ألف سنة، وكانت هذه العقيدة قائمة على الخيال.
والأسطورة توظف سياسياً وعسكرياً، فبعض الدول والمجتمعات ترى في الأسطورة وسيلة لتحقيق أهدافها وغاياته في بناء الهوية، وشيطنة المخالف، وتبرير العنف، كما أن اللجوء إلى الأساطير يعزز التضحية ويرفع الروح المعنوية، لكن من الناحية الأخرى شكلت الأسطورة وهماً تاريخياً، حجب العقل عن التفكير النقدي في مقولات الأسطورة وما ترمي إليه من غايات؛ لذا تتكرر مواجهة الكثير من المحاولات لنقد الأساطير المؤثرة في بعض الأمم، مثل أسطورة «شعب الله المختار» في التراث اليهودي.
وقد اعتبر الفيلسوف الألماني إرنست كاسيرر (ت 1945م) أن التفكير الصانع للأسطورة تفكير بدائي وخرافي، والمعروف أن هذا الفيلسوف كان من أشد المعارضين لمقولات النازية، وأسطورة تفوق العرق الآري، وفر إلى الولايات المتحدة هرباً من هتلر، حيث رأى هذا الفيلسوف تأثير الأسطورة الطاغي على صناعة التاريخ الدامي في العصر الحديث؛ لذا وجه اهتمامه لنقدها وكشف زيفها، ورأى أن الأساطير الحديثة ما هي إلا إحياء جديد للبدائية.
ومن ثم، فالعقل يجب أن ينظر إلى التاريخ ليس على أن ليس مجموعة من الحقائق، ولكن رواية سجلت وفق رؤية الكاتب أو المؤرخ، وعندما يدرك الشخص ذلك، فإن ذلك يحجب عنه الكثير من أوهام التاريخ وحتمياته المزيفة، على اعتبار أنه نسبي، وروايته قد تحتمل الصدق ودرجات أخرى من غير الصدق؛ وهو ما يجعل قراءة التاريخ عملية متجددة، فلا نكون أمام رواية تاريخية مقدسة.
قيود الأوهام
من أصعب القيود المعيقة للعقل، قيود الأوهام التاريخية والأساطير، فهي لا تحرم العقل من خاصية التفكير فقط، ولكن تكاد أن تجرم التفكير إذا خرج عن سلطانها ومقولاتها، وقد انتبه رواد الفكر الإصلاحي الإسلامي في القديم والحديث لذلك المأزق، وسعوا لتحرير العقل، فالإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه حذر من ذلك، وقال: «لا تعلموا أبناءكم على عاداتكم، فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم»، فلكل جيل تجربته، ولا يحق لجيل أن يجعل تجربته هي الأنموذج المفروض على الجميع، فهذا يقيد العقل ويلجمه بتقليد أداء الآخرين واجتهاداتهم التي يُفترض أن تتجدد مع الزمن.
ونجد مثلاً العلَّامة ابن خلدون قاد اجتهاداً مهماً في نقد الأوهام التاريخية، وذلك من خلال نقد المؤرخ الذي يدون التاريخ، فاعتبره مسؤولاً مسؤولية كبيرة عن تدقيق الأخبار وتمحيصها قبل تصديه للتأريخ، وناقش ابن خلدون مسببات انتشار الأوهام أثناء التعامل مع الواقعة التاريخية، ومنها: العادات والتقاليد التي ألفها الناس ونشؤوا عليها، نظراً لأن طبيعة تصوراتهم في إدراك الحدث لن تخرج عن تلك التصورات، فهم يقيسون الأحداث على ما ألفوه.
موضوع التاريخ عند ابن خلدون لا يقتصر على أحداث السياسة، ولكن يشمل أحوال المجتمع أيضاً، ويؤكد حقيقة التاريخ، وهي أنه في باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة وعريق، وجدير بأن يُعَدَّ في علومها وخليق، ومن ثم فالتاريخ عنده تمحيص للأخبار وتعليل للوقائع، فالغلط والوهم نسيب للأخبار وخليل، والكذب متطرق للخبر بطبيعته، وهذه المنهجية تقاوم الأوهام، ومن لا يلتزم بهذين المحددين الكبيرين فهو عند ابن خلدون ليس بمؤرخ، بل من الهمل الذين ليس يُعْتَبر لهم مقال، ولذا حدد مجموعة من الأسباب التي تقف وراء الوهم والكذب، ومنها:
– التشيع للآراء والمذاهب، وهذا يجعل الإنسان يتلقى الخبر دون نظر أو تمحيص.
– الثقة المفرطة في ناقلي الأخبار.
– الرغبة في التقرب من أصحاب السلطان والجاه والنفوذ، حيث تكثر الأخبار عنهم على غير الحقيقة.
– الجهل بطبائع العمران.
ونجد المدرسة الإصلاحية الإسلامية الحديثة، كانت حريصة على تحرير العقل من الأوهام التي تحكمه، والتأكيد على أن التاريخ محكوم بسنن، وليس متروكاً لخرافات وأوهام تعبث بأقدار الناس وموازين الأمور، فالمصلح جمال الدين الأفغاني يؤكد هذا المعنى بقوله: «قيد الأغلال أهون من قيد العقول بالأوهام، العقل أشرف مخلوق؛ فهو عالم الصنع والإبداع، ولا معطل له إلا الوهم، ولا يقعده عن عمله إلا الجبن».