زرعت الأفلام السينمائية الرومانسية في عقول أجيال أنه لا زواج إلا عن حب وعشق بين الذكر والأنثى، وأن العاشقيْن يحاربان الدنيا بأسرها من أجل حبهما، وأن هذا الحب سينتصر في النهاية، وسيخضع الجميع لسلطانه.
لكن تلك الأفلام لم تُلق الضوء على هؤلاء العاشقين بعد الزواج، وكيفية مواجهتهما للمشكلات، وإلى أي حدٍّ استمر هذا الحب ونما مع تقلبات الحياة.
هذه الصورة المرسومة مجافية للواقع، وغير معبرة عنه تمام التعبير، بل وأثرت تأثيرًا سلبيًّا على الأجيال التي رأت أن الرومانسية والحب والعشق مبتدأ الأمر ومنتهاه، فإذا عُدموا استحالت الحياة، ولن يمكن أن تقوم الأسرة بحال من الأحوال.
والواقع يشهد على غير ذلك؛ فهناك أسر قامت على الحب لكنها لم تتمكن من الاستمرار، وكان الفشل هو نهاية الطريق، وهناك أسر بحثت عن قواعد وأسس أخرى لاستمرارها، ونجحت في ذلك.
والتاريخ والواقع يشهدان أن كثيرًا من قصص الحب والعشق لم يتمكن طرفاها من الاجتماع في أسرة من الأساس لظروف مختلفة متباينة في كل حالة.
وليس معنى ذلك نفي الحب وعدم البحث عنه، وإنما وضعه في محله الصحيح؛ فالحب وحده لا يكفي في الزواج، بل يحتاج معه إلى الاحترام والثقة والتفاهم والصبر والاحتمال والتغافل والتسامح والمودة والرحمة وإعطاء الحقوق.. إلخ، فهذه كلها أسس لا غنى للأزواج عنها، وركائز تعمل على استمرار الزواج وإثماره.
والإسلام من خلال القرآن بيَّن أن ديمومة الزواج قد توجد مع انتفاء المحبة، بل ووقوع الكراهية، لكنه وجَّه الرجال أن الخير قد يكون في تلك السيدة التي لم يمل لها القلب كل الميل، ولم يملأ حبها على الرجل جوانحه؛ إذ قد يبارك في نسلهما ويخرج منهما الصالحون الأبرار؛ فقال تعالى: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) (النساء: 19).
قال سيد قطب: «ما أتفه الكلام الرخيص الذي ينعق به المتحذلقون باسم «الحب»، وهم يعنون به نزوة العاطفة المتقلبة، ويبيحون باسمه انفصال الزوجين وتحطيم المؤسسة الزوجية، بل خيانة الزوجة لزوجها! أليست لا تحبه؟! وخيانة الزوج لزوجته! أليس أنه لا يحبها؟!
وما يهجس في هذه النفوس التافهة الصغيرة معنى أكبر من نزوة العاطفة الصغيرة المتقلبة، ونزوة الميل الحيواني المسعور.
ومن المؤكد أنه لا يخطر لهم أن في الحياة من المروءة والنبل والتجمل والاحتمال ما هو أكبر وأعظم من هذا الذي يتشدقون به في تصور هابط هزيل»(1).
وجاءت السُّنة النبوية معضدة لما أوضحه القرآن وبيَّنه؛ إذ إن الكمال البشري نادر في الرجال فضلاً عن النساء، ومعنى ذلك أننا كلنا يقع منا الخير والشر، ولسنا مبرئين من العيوب، لكن إذا غلب الخير على الشر، والحُسن على السوء، فالتمسك بينهما أولى، وعدم التفريط أوجب؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لاَ يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ»(2)؛ أي: لا يبغضها بُغضًا كليًّا يحمله على فراقها؛ أي: لا ينبغي له ذلك، بل يغفر سيئها لحسنها، ويتغاضى عما يكره لِمَا يحب(3).
وقد استقر هذا الأمر في عقول وقلوب الصحابة، فإذا انحرف أحد عن هذا الفهم قاموا بتقويمه وتوجيهه، وفي هذا حفاظ على الأسر، بل والمجتمعات المسلمة من التفكك والتفتت.
وقد ذكر الطبري أن رجلاً اسمه ابن عزرة أراد أن يعرف مقامه في قلب زوجه فأخذ رجلاً اسمه ابن الأرقم ليشهده على قول امرأته فيه، فقال ابن عزرة لامرأته أمام ابن الأرقم: أتبغضينني؟
قالت: نعم.
قال له ابن الأرقم: ما حملك على ما فعلت؟
قال: كبرت عليَّ مقالة الناس.
فأتى ابن الأرقم عمر بن الخطاب فأخبره، فأرسل إلى ابن عزرة فقال له: ما حملك على ما فعلت؟
قال: كبرت عليَّ مقالة الناس.
فأرسل إلى امرأته، فجاءته ومعها عمة لها منكرة، فقالت: إن سألك فقولي: إنه استحلفني، فكرهت أن أكذب.
فقال لها عمر: ما حملك على ما قلت؟
قالت: إنه استحلفني، فكرهت أن أكذب.
فقال عمر: بلى، فلتكذب إحداكن ولتجمل، فليس كل البيوت يبنى على الحب، ولكن معاشرة على الأحساب والإسلام(4).
فهنا المرأة ظنت أنه من الصدق أن تخبر زوجها بمشاعرها أمامه، فأخبرته ببغضها له، فأنكر عليها عمر الفاروق ذلك، بل دعاها لأن تتألف زوجها بالقول لا أن تصدمه بتلك الصورة، وقعَّد قاعدة عظيمة: «ليس كل البيوت يُبنى على الحب».
وكان سبب بغضها له ما اشتُهر عنه من خلعه للنساء اللواتي يتزوجهن وتحدُّث الناس لذلك وكثرة ذكرهم له وأنه ظالم لنسائه؛ فهو كره كلام الناس، وهي كرهت فعله.
وفي رواية أخرى لنفس القصة أن عمر الفاروق قال لها: نعم، فاكذبي؛ فإن كانت إحداكن لا تحب أحدًا، فلا تحدِّثه بذلك؛ فإن أقل البيوت الذي يُبنى على الحب، ولكن الناس يتعاشرون بالإسلام والإحسان(5).
فأقل البيوت تلك التي تُبنى على الحب، هذا الحب والعشق الذي يكون من أول نظرة، وتلتهب لأجله المشاعر، وتشتعل النيران في القلوب.
فما تفعل المشاعر مع امرأة غير أصيلة تنقلب على الزوج عند أول أزمة، أو تزرع في أولادها الكُره لأهل الزوج، أو تريد أن تستأثر بالزوج دون أهله؟
فالمرأة الأصيلة يردعها حسبها ونسبها عن أن تفعل ما يسوء، وكذلك ذات الدين الحقيقي لا المغشوش هي التي ترى الخير فتعظمه، وترى الشر فتعرض عنه وتصفح.
فإذا وُجد الحب مع الأصل والدين فأنعم به وأكرم، وإن كان الحب مع قلة الأخلاق وضعف الإيمان وضعة الأحساب والأنساب فبُعدًا له وسُحقًا!
_______________________
(1) في ظلال القرآن (1/606).
(2) أخرجه مسلم في الرضاع، باب: الوصية بالنساء، ح(1469).
(3) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم لأبي العباس القرطبي (4/ 222).
(4) تهذيب الآثار للطبري (3/ 142).
(5) مساوئ الأخلاق للخرائطي ص 89.