لا يستطيع إنسان أن يحيط بكل شيء علماً، أو يحسن التفكير والإحاطة بكل جوانب الحياة؛ لذا كانت الاستعانة بالآخرين في إدارة شؤون الحياة أمراً ضرورياً، ويظهر ذلك من خلال طلب الآراء أو إبدائها من غير طلب، وهو ما يطلق عليه ممارسة الشورى.
لقد أكد القرآن الكريم أهمية الشورى في حياة المسلم، وذلك من خلال تنوع مظاهر الاهتمام بها، ويتبين ذلك فيما يأتي:
أولاً: اسم سورة بالقرآن:
إن الناظر في المصحف الشريف يجد أن السورة رقم (42) فيه تسمى سورة «الشورى»، وهي الواقعة في ترتيب سور القرآن الكريم بين سورتي «فصلت» و«الزخرف»، فإذا تيقنا من وجودها بهذا الاسم فإن في هذا دلالة على أهمية الشورى، فليس هناك أهم من أن يعتني القرآن الكريم بالشيء حين يسمي باسمه سورة كاملة.
ثانياً: ركيزة تأسيسية للمجتمع المسلم:
نزلت سورة «الشورى» بمكة المكرمة، ومعلوم أن القرآن الكريم الذي نزل بمكة كان مهتماً بتقرير العقيدة الدينية والركائز التأسيسية للشخصية المسلمة؛ لذا كان الحديث عن الشورى في بداية شأن الدعوة الإسلامية علامة على ارتكاز الأمة الإسلامية عليها في شؤون حياتها المتنوعة.
ثالثاً: الأمر بها في القرآن:
جاء الأمر بالتشاور صريحا في القرآن الكريم، حيث قال الله عز وجل: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران: 159).
رابعاً: صفة من صفات المؤمنين:
إذا كانت الآية السابقة تؤكد أن الله أمر بالشورى صراحة؛ فإن الله تعالى في آية أخرى أكد أن الشورى من صفات المؤمنين، قال تعالى: (فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ {36} وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ {37} وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ {38} وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ {39} وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (الشورى).
خامساً: الممارسات التطبيقية في القرآن:
رصد القرآن الكريم عدداً من الممارسات التي طبقت الشورى في جوانب متعددة من الحياة العملية، ففيه حديث عن الشورى بين الزوجين، والأب وابنه، وبين الإخوة، وبين الحاكم والمحكومين، وهذه بعض الأمثلة على ذلك:
1- الشورى بين الزوجين:
كشف القرآن الكريم عن حالة من حالات الاختلاف بين الزوجين، في فطام الرضيع، وأرشد إلى ضرورة الشورى في ذلك، من أجل الوصول إلى اتفاق فيها، حيث قال تعالى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (البقرة: 233).
2- الشورى بين الأب وابنه:
تحدث القرآن الكريم عن صورة من صور الشورى بين الأب وولده، حيث قال تعالى: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) (الصافات: 102)، فقد أوحى الله تعالى إلى إبراهيم عليه السلام في رؤياه أن يذبح ولده إسماعيل، وعندما عزم إبراهيم عليه السلام على التنفيذ نادى ولده قائلاً: (يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى)، إنه يطلب رأيه في هذا الموقف الشديد، مما يدل على أهمية الشورى في حياة المسلم.
3- الشورى بين الإخوة:
أوضح القرآن أن إخوة سيدنا يوسف عليه السلام حين رأوا محبة والدهم ليوسف، وعزموا على التخلص منه، حتى ينالوا المحبة وحدهم، تشاوروا فيما بينهم، وقد قص القرآن قصتهم في قوله تعالى: (لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ {7} إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ {8} اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ {9} قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ) (يوسف).
4- الشورى بين الحاكم والمحكومين:
بيّن القرآن في قصة سيدنا سليمان عليه السلام مع ملكة سبأ صورتين من صور الشورى بين الحاكم والمحكومين.
أما الأولى: فكانت بين بلقيس (ملكة سبأ) والملأ من قومها، حيث أتاها خطاب سليمان عليه السلام، فاستشارت قومها بشأنه، وفي هذا قال تعالى: (قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ {29} إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {30} أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ {31} قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ {32} قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ) (النمل).
أما الثانية، ففي قصة سيدنا سليمان مع بلقيس؛ فكانت حين أرسلت بقيس بهدية إلى سيدنا سليمان، لتختبر رد فعله، وهنا فتح سيدنا سليمان الرأي والمشورة مع جنوده، (قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ {38} قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ {39} قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) (النمل)، فعلى الرغم من كونه ملكاً يأمر وينهى، فإنه استشار قومه، وانتفع من مشورتهم.