تحدثنا في الجزء الأول من المقال، الذي نُشر في 28 أكتوبر، عن جذور العلمانية وماهيتها، وملابسات تسللها إلى بلادنا، وحاملي لواءها في مجتمعاتنا، ونُكمل اليوم ما بدأناه هناك، بتناول تداعيات العلمانية، وسُبُل التخلص من آثارها وانعكاساتها الخطيرة.
تداعيات الفكر العلماني في مجتمعاتنا
تدريجياً تمدّد الفكر العلماني في مجتمعاتنا، حتى أحدث دويّاً هائلاً في ربوعها، ومع تعدد انعكاساته، فمن أكثرها خطورة ما يلي:
– اصطدام الفكر العلماني بركائز دينية ظلت راسخة في أذهان المسلمين على مدار التاريخ الإسلامي؛ ما أدّى إلى بلبلة العقل الجمعي للأمة، لا سيما ما يتعلق منها بجوهر الإسلام، ودوره في أنشطة الحياة بشكل عام.
– أحدث الفكر العلماني شروخاً عميقة في الأنسجة الاجتماعية لبلادنا، تلك الشروخ التي انعكست على مختلف المجالات والأنشطة، واتسعت هوتها حتى أفرزت انقسامات حادة داخل كل واحد من مجتمعاتنا قادتها إلى صراعات بين أصحاب الفكر العلماني، وبين من اصطُلح على تسميتهم بـ«المتدينين»، انطلقت جميعاً من الاختلاف حول ركائز دينية لها حضورها الفكري، والثقافي، والسياسي والاجتماعي، بل وحتى الاقتصادي.
والحاصل أن هذا الصراع بين العلمانيين من ناحية، والمتدينين من ناحية أخرى، قائم اليوم على أشدّه، بل العجيب أنّه متطابق في جُلّ مجتمعاتنا الإسلامية، ومن مختلف الجوانب، بحيث إنها نسخ كربونية متطابقة تماماً! فمن باكستان، وبنجلاديش وإندونيسيا شرقاً، إلى ليبيا وتونس والمغرب والجزائر غرباً، ومن السودان جنوباً إلى تركيا شمالاً التي تمثل النموذج الأشد وضوحاً وحدّة لهذا الصراع لأسباب تاريخية لا تخفى على أي متابع، والخوف أن تتحوّل هذه الصراعات في مجتمعاتنا إلى ما هو أكثر حِدة وخطورة، لا قدّر الله.
سُبُل الخروج من الأزمة
أما عن سُبُل الخروج بمجتمعاتنا الإسلامية من هذا النفق المظلم، فنرى أن المسؤولية تقع بالدرجة الأولى على عاتق علماء الأمة، لا سيما الهيئات والمؤسسات الدينية الرسمية العامة في بلادنا المسلمة، التي تتحمل القدر الأكبر من مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع جراء هذا الصراع الشرس، وبالتالي فالآمال معلقة عليها أيضاً في سرعة تدارك الوضع قبل الانفجار المرتقب الذي من شأنه أن يقوض أركان المجتمعات الإسلامية كافة، لا قدّر الله.
إنّ ما نطلبه من علمائنا ومؤسساتنا وهيئاتنا الاضطلاع بدورهم والتدخل لفض هذا الاشتباك الديني، وإنهاء حالة الجدل اللامحمود، والتنازع الذي قد يُفضي يوماً ما إلى الاقتتال والتناحر بين أبناء الدين الواحد، وفي هذا المقام ثمة مسائل جوهرية عديدة تنتظرهم، لحسمها وإنهاء الجدل المحتدم الدائر حولها، منها على سبيل المثال ما يلي:
أ- هل هناك ما يسمى بالاقتصاد الإسلامي حقاً؟ وهل يتضمن الإسلام أحكاماً ومبادئ ترقى فعلاً إلى تكوين بناء أو نظام اقتصادي متكامل؟ ثم هل توجد في الإسلام نظرية أو صيغة سياسية لقيادة الدول والشعوب وإدارة شؤونها الداخلية والخارجية؛ حرباً وسلماً؟
لا نريد التطرق إلى مصطلحات من قبيل الدولة الدينية أو المدنية إلى آخره، بل نوجه أسئلة ذات مضمون واضح ومباشر: أليس من العجيب أن تثار مثل هذه الجدليات منذ عقود طويلة، ليس أولها ما جرى مع الشيخ علي عبدالرازق جراء الأفكار التي ضمّنها كتابه «الإسلام وأصول الحكم» قبل أكثر من 70 عاماً، ثم تنقسم الأوطان الإسلامية كافة حول هذه الجدليات إلى فريقين يأكل بعضهما بعضاً، دون أن يضطلع علماؤنا ومؤسساتنا الدينية بدورهم فيخرجون على الأمة الإسلامية بمجموعة من الفتاوَى الواضحة القاطعة في دلالاتها، للفصل في مثل هذه المسائل المصيرية؟
ثم إنه إذا كانت الإجابة عن هذه التساؤلات بالإيجاب، فلماذا لم يشرع علماؤنا حتى يومنا هذا في وضع تصور متكامل أو مشروع اقتصادي وسياسي واجتماعي إسلامي شامل بشروح مستفيضة وأمثلة واضحة مستقاة من وعاء عصرنا ومُسقَطَة أيضاً على مفرداته بشكل واضح لا لبس فيه؟! وعلى من يُعوِّل المسلمون في أصقاع الأرض إذا لم يعوّلوا على علمائهم ومؤسساتهم في مثل هذه الأمور الخطيرة؟ وفي أي شيء يُعوَّل على علماء الأمة ومؤسساتها وهيئاتها الدينية إذا لم يعوَّل عليهم هنا؟ إنه عتاب وصرخة استغاثة، ليس إلا.
ب- هل تطبيق الشريعة الإسلامية فريضة أم لا؟ وإذا كانت الأولى فهل هي مطبقة في جميع بلداننا الإسلامية، أم غير مطبقة، أم مطبقة بشكل جزئي؟ إن هناك لغطاً شديداً حول هذه المسألة؛ فهناك من يقول: إن الشريعة الإسلامية مطبقة بنسبة كبيرة في هذه المجتمعات كافة، فهل هذا صحيح؟ وإذا كان صحيحاً فما المجالات أو الجوانب التي لم يُبسط عليها سلطان شرع الله حتى اليوم بعينها؟
ونخص في هذا الإطار قضية «الحدود»، فهناك من يرى أن هذه الحدود لا تناسب إنسان اليوم، وأنه يجب أن تُستبدَل بها عقوبات وضعية أخرى أكثر اتساقاً مع طبيعة العصر، فما الرأي في هذا القول؟ وهل هذه من الأمور الفرعية التي يجوز تركها دون رابط من أهل العلم يحفظ لها حدودها ويحفظ لمجتمعاتنا وحدتها ولُحمتها وأمنها الداخلي؟!
جـ- هل حجاب المرأة فرض أم واجب أم عادة عربية قديمة؟ فحينما نسمع أناساً لهم تواجدهم وتأثيرهم الإعلامي يقررون أن القرآن الكريم لا يتضمن حكماً بوجوب الحجاب، وحينما نقرأ لكُتَّاب معروفين ما فحواه أن الحجاب ليس من الدين في شيء، وأن نساء العرب كن يستعملنه قديماً فقط للوقاية من لهيب الصحراء في جزيرة العرب حينما كن يذهبن لقضاء الحاجة في الخلاء! حينما نقرأ هذا ونسمع ذاك فالأمر جد لا هزل، وكان المنتظر من الهيئات والمؤسسات الدينية المسارعة بتجديد الفتوى الشرعية في هذا الخصوص، والتأكيد عليها بشكل متكرر وبصوت مسموع، وإعلان أمر الله أياً كان مضمونه، وتفنيد ما عداه.
د- هل يتفق مظهر الممثلات والمطربات في معظمهن مع ما تقرُّه الشريعة الإسلامية في هذا الصدد؟ وهل تتفق طبيعة الأداء التمثيلي، في معظمه أيضاً، مع شريعتنا الغراء؟ إن معظم الممثلين والمخرجين وغيرهم في هذا المجال لا يرون بأساً في المشاهد المخلَّة، باعتبار ذلك ضرورة فنية؛ فهل هذا مما يوافق الشرع؟ لو كان الأمر فردياً أو نادر الحدوث لربما سكتنا عنه، ولكن هذا اللون هو الغالب اليوم في مجال التمثيل!
ثم هل يقرّ الإسلام ما يُعرف في مجتمعنا بـ«الرقص الشرقي»، باعتباره أحد الفنون التي من شأنها أن ترتقي بالمجتمع؟! ألا يرى علماؤنا الأجلاء ويسمعون ما يدور في مجتمعاتهم؟ وإذا كانوا يسمعون ويعرفون فلماذا الصمت إذاً؟ إننا لا نطالب من علمائنا أن يفتوا في اتجاه بعينه، بل أن يعلنوا رأي الدين أياً كان ومع من كان.
قد يقول قائل: إن المقال يطرح بديهيات، لا.. فثمة بديهيات كثيرة لم تعد محل إجماع بين مسلمي عصرنا! حتى وإن كان هذا الأمر محل إجماع من الأمة في عصور سابقة، فلا ضير من تجديد الفتوى، بل والإلحاح عليها درءاً للمفاسد، وحتى لا نترك أصحاب الرأي الخطأ، أياً كان هذا الرأي وأياً من كان أصحابه، على زيغهم، كما أننا بهذا نعصم غيرهم من الاقتداء بهم، وبعد ذلك من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.
أيها العلماء، إن مجتمعاتنا الإسلامية مهددة بأخطار مرعبة، وإن القِسط الأكبر من مسؤولية تدارك هذه الأخطار يقع على عاتقكم، فلتضطلعوا بمسؤولياتكم دونما إبطاء.