من الأمراض التي تقعد بالمسلم وتمنعه من مواصلة السير في الطريق إلى الله تعالى الكِبْر والتكبُّر، والكبر والتكبر في اللغة من مادة واحدة، قال صاحب القاموس المحيط: استكبر الرَّجلُ؛ أي تكبَّر وتجبَّر وتعاظم وامتنع عن قبول الحق وتمرّد، قال تعالى: (إلا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) (البقرة: 34)، وقال تعالى: (إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ) (النحل: 23)، وقال تعالى: (ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ) (المدثر: 23).
وقد عرَّف علماء التربية الكبر والتكبر بأنه: إظهار المسلم إعجابه بنفسه بصورة تجعله يحتقر من حوله في أنفسهم، وينال من ذواتهم ويترفع عن قبول الحق منهم.
وقد فرَّق ابن القيم بين الكِبْر وصيانة النفس التي قد يظنها البعض تكبراً من صاحبها فقال: الفرق بين الصيانة والتكبر: أن الصائن لنفسه بمنزلة رجل قد لبس ثوباً جديداً نقي البياض ذا ثمن، فهو يدخل به على الملوك فمن دونهم، فهو يصونه عن الوسخ والغبار والطبوع وأنواع الآثار؛ إبقاء على بياضه ونقائه، فتراه صاحب تعزز وهروب من المواضع التي يخشى منها عليه التلوث، فلا يسمح بأثر ولا طبع ولا لوث يعلو ثوبه، وإن أصابه شيء من ذلك على غِرة بادر إلى إزالته ومحو أثره، وهكذا الصائن لقلبه ودينه تراه يجتنب طبوع الذنوب وآثارها؛ فإن لها في القلب طبوعاً وآثاراً أعظم من الطبوع الفاحشة في الثوب النقي للبياض، ولكن على العيون غِشاوة أن تدرك تلك الطبوع، فتراه يهرب من مظان التلوث ويحترس من الخلق ويتباعد عن مخالطتهم؛ مخافة أن يحصل لقلبه ما يحصل للثوب الذي يخالط الدباغين والذباحين والطباخين ونحوهم.
بخلاف صاحب العلو (الكِبْر)؛ فإنه وإن شابه هذا في تحرزه وتجنبه فهو يقصد أن يعلو رقابهم، ويجعلهم تحت قدمه، فهذا لون، وذاك لون آخر(1).
في القرآن والسُّنة
حرَّم الله تعالى الكِبْر في القرآن الكريم فقال تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) (الأنعام: 93)، وقال تعالى: (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (الأعراف: 36)، وقال تَعَالَى: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ) (الأعراف: 146)، وقال تَعَالَى: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (القصص: 83).
وكذلك حرَّمه الرسول صلى الله عليه وسلم في أكثر من حديث فقال: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كِبْر»، فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً، ونعله حسنة؟ قال: «إن الله جميل يحب الجمال، الكِبْر بطر الحق، وغمط الناس» (رواه مسلم)، وقال صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتل، جواظ، مستكبر» (متفق عليه)، وعن سلمة بن الأكوع، أن رجلاً أكل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بشماله، فقال صلى الله عليه وسلم: «كل بيمينك»، قال: لا أستطيع، قال: «لا استطعت، ما منعه إلا الكبر»، قال: فما رفعها إلى فيه. (رواه مسلم).
العاقبة
مسيرة العمل الإسلامي تؤكد أن للكبر والتكبر في الأرض بغير الحق عواقب خطيرة على الفرد وعلى المجموع، فعلى مستوى الفرد، فإنه يُحرم من النظر والاعتبار، وذلك بترفعه وتعاليه على عباد الله تعالى؛ مما يؤدي إلى إصابته بالقلق والاضطراب النفسي، عندما ينفض الناس من حوله ويكرهون التعامل معه، ومن أخطر العواقب على المتكبر الحرمان من الجنة.
وعلى مستوى المجموع، فإن انتشار الكبر والتكبر بين العاملين يؤدي إلى قلة كسب الأنصار بل والفرقة والتمزق؛ وذلك لأن القلوب فُطِرَت على حب من ألان لها القول، وخفض لها الجناح، قال تعالى مادحاً رسوله صلى الله عليه وسلم: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران: 159).
الأسباب
للكبر والتكبر أسباب كثيرة نوجزها فيما يلي:
– مبالغة البعض في التواضع: وذلك لأن البعض حينما يرى تواضع من حوله وزهدهم في الملبس والمشرب والمأكل، وانصرافهم عن تصدر المجالس وإبداء الرأي، فيظن في نفسه أنه أفضل ممن حوله، فينفث الشيطان في روعه التكبر والتعالي عليهم.
– اختلال معايير التفاضل بين الناس: وهذا يرجع إلى جهل البعض بالمعيار الحقيقي للتفاضل، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات: 13)، فنراهم يفضلون صاحب الدنيا، ويقدمونه حتى وإن كان بعيداً عن منهج الله، في الوقت الذي يُحقِرون فيه البائس المسكين الذي أدارت له الدنيا ظهرها حتى وإن كان طائعاً ملتزماً.
– الاعتقاد بدوام النعمة وعدم التحول عنها: ذلك أن البعض تأتيه النعمة من الدنيا، وتحت تأثيرها وبريقها يظن دوامها أو عدم التحول عنها، وينتهي به هذا الظن إلى التكبر والتعالي على عباد الله تعالى.
– الغفلة عن عاقبة الكبر والتكبر: ذلك لأن من غفل عن الآثار الضارة لعلة من العلل، فإنه يصاب بها، وتتمكن منه، ولا يشعر بها إلا بعد فوات الأوان.
العلاج
يكون باتباع الأساليب والوسائل التالية:
1- تذكير النفس بالعواقب والآثار المترتبة على التكبر، سواء كانت عواقب فردية أو متصلة بالمجموع، وسواء كانت دنيوية أو أخروية.
2- زيارة المرضى، ومشاهدة المحتضرين وأهل البلاء وتشييع الجنائز، وزيارة القبور، فلعل ذلك يحرك المتكبر، ويجعله يرجع إلى ربه ويتواضع لخلقه.
3- الابتعاد عن صحبة المتكبرين، والحرص على صحبة المتواضعين المخبتين، فالصاحب ساحب.
4- النظر في سير وأخبار المتكبرين، كيف كانوا؟ وإلى أي شيء صاروا؟ من إبليس والنمرود إلى فرعون، إلى هامان، إلى قارون، إلى أبي جهل، إلى أُبي بن خلف، إلى سائر الطغاة والجبارين والمجرمين؛ حتى لا يلقى مصيرهم.
5- حضور مجالس العلم، لا سيما مجالس التذكير والتزكية، فإن هذه المجالس لا تزال بالقلوب حتى ترق وتلين وتعود إليها الحياة من جديد.
6- تذكر المعيار الحقيقي للتفاضل في الإسلام، والمواظبة على الطاعات التي تزكي النفس وتطهرها من الرذائل(2).
____________________
(1) الروح، ابن القيم (1/ 236)، بتصرف.
(2) آفات على الطريق، د. السيد محمد نوح (1/ 167).