كَانَ بَيْنَ فَارِسَ وَالرُّومِ قِتَالٌ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَوَدُّونَ أَنْ تَغْلِبَ فَارِسُ الرُّومَ، لِأَنَّ أَهْلَ فَارِسَ كَانُوا مَجُوسًا أُمِّيِّينَ، وَالْمُسْلِمُونَ يَوَدُّونَ غَلَبَةَ الرُّومِ عَلَى فَارِسَ، لِكَوْنِهِمْ أَهْلَ كِتَابٍ، فَبَعَثَ كِسْرَى جَيْشًا إِلَى الرُّومِ، وَبَعْثَ قَيْصَرُ جَيْشًا إِلَى فَارِسَ، فَغَلَبَتْ فَارِسُ الرُّومَ، فبلغ ذلك المسلمون بِمَكَّةَ، فَشَقَّ عَلَيْهِمْ، وَفَرِحَ بِهِ كُفَّارُ مَكَّةَ، وَقَالُوا لِلْمُسْلِمِينَ: إِنَّكُمْ أَهْلُ كِتَابٍ، وَالنَّصَارَى أَهْلُ كِتَابٍ، وَنَحْنُ أُمِّيُّونَ وَقَدْ ظَهَرَ إِخْوَانُنَا مَنْ أَهْلِ فَارِسَ عَلَى إِخْوَانِكُمْ مَنْ أَهْلِ الرُّومِ، وَإِنَّكُمْ إِنْ قَاتَلْتُمُونَا لَنَظْهَرَنَّ عَلَيْكُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى قوله: (الم {1} غُلِبَتِ الرُّومُ {2} فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ {3} فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ {4} بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (الروم).
فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ إِلَى الْكُفَّارِ، فَقَالَ: فَرِحْتُمْ بِظُهُورِ إِخْوَانِكُمْ، فَلَا تَفْرَحُوا فَوَاللَّهِ لَيُظْهِرُنَّ عَلَى فَارِسَ عَلَى مَا أَخْبَرَنَا بِذَلِكَ نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم(1).
من خلال هذا الموقف يدل على أن الفرح بهلاك الأعداء مشروع، ويتبين ذلك من خلال الأدلة الآتية:
1- فرَحُ المؤمنين بنصر الله تعالى الرومَ على فارس:
في الآيات السابقة أوضح الله تعالى أن المؤمنين يفرحون بنصر الله، وهلاك الظالمين والطغاة يعد مظهراً من مظاهر النصر الذي يفرح به المؤمن، ويدل على ذلك أيضاً ما رواه الترمذي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ «بَدْرٍ» ظَهَرَتِ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ، فَأَعْجَبَ ذَلِكَ الْمُؤْمِنِينَ.
2- نصّ القرآن الكريم على الحمد لله عند هلاك الطغاة:
قال الله تعالى: (فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ {44} فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام).
3- النص القرآني على شفاء صدور المؤمنين وذهاب غيظ قلوبهم بإهلاك المجرمين:
قال الله تعالى: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ {14} وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللّهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (التوبة)؛ إن تعذيب الله تعالى الكافرين المعتدين والانتصار عليهم فيه شفاء لصدور المؤمنين وذهاب لغيظ قلوبهم، وفي هذا ما يدل على الفرح الشديد والامتنان العظيم.
4- ذِكْر الانتصار على المجرمين في معرض الإنعام والامتنان:
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا) (الأحزاب: 9)؛ وفي الآية بيان أن إهلاك أعداء الله تعالى من نِعَم الله على المسلمين التي تستوجب ذِكراً وفرحاً وشكراً.
5- حَمْد النبيِّ ربَّه عند رؤيته هلاك الطغاة.
روى ابن هشام عن ابْن مَسْعُودٍ قال: في يوم «بدر» وَجَدْتُ أبا جهل بِآخِرِ رَمَقٍ فَعَرَفْتُهُ، فَوَضَعْتُ رِجْلِي عَلَى عُنُقِهِ، فقَالَ لِي: لَقَدْ ارْتَقَيْتَ مُرْتَقًى صَعْبًا يَا رُوَيْعِي الْغَنَمِ، قَالَ: ثمَّ احتززت رَأْسَهُ ثُمَّ جِئْتُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا رَأْسُ عَدُوِّ اللَّهِ أَبِي جَهْلٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: آللَّه: «.. الَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ»، قَالَ: وَكَانَتْ يَمِينَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ، ثُمَّ أَلْقَيْتُ رَأْسَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَمِدَ اللَّهَ(2).
6- راحة العباد والبلاد بهلاك الطغاة:
روى البخاري، ومسلم، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ الْأَنْصَارِيِّ، أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ، فَقَالَ: «مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ؟ قَالَ: «الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللهِ، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلَادُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ»؛ ففي هذا الحديث تأكيد على أن الطغاة حين يهلكون يستريح الناس من شرهم وبطشهم، بل يستريح منهم الكون كله، وكأن الفرح بهلاك الطغاة يسعد الكون بما فيه.
7- فرح الصحابة بهلاك الطغاة:
روى ابن أبي شيبة في مصنفه أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه سجد شكراً حين جاءه خبر قتل مسيلمة الكذاب، كما روى أيضاً أن سيدنا علياً بن أبي طالب رضي الله عنه خرّ ساجداً، حين رأى ذا الثدية بين قتلى الخوارج(3).
8- فرح العلماء بهلاك الطغاة وفتوى الفقهاء بجوازه:
روى ابن سعد في «الطبقات» عن أبي حنيفة عن حمّاد قال: بشّرتُ إبراهيم النخعي بموت الحجّاج فسجد، وقال حمّاد: ما كنتُ أرى أنّ أحدًا يبكي من الفرح حتى رأيتُ إبراهيم النخعي يبكي من الفرح، لموت الحجاج(4).
وقال أبو بكر بن الخلال: قِيلَ لِأَبِي عَبْدِاللَّهِ أحمد بن حنبل: الرَّجُلُ يَفْرَحُ بِمَا يَنْزِلُ بِأَصْحَابِ ابْنِ أَبِي دُؤَادَ، عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ إِثْمٌ؟، قَالَ: وَمَنْ لَا يَفْرَحُ بِهَذَا؟(5).
وقال ابن كثير: فيمن توفي سنة 568هـ، الحسن بن صافي التركي، كان من أكابر أمراء بغداد المتحكمين في الدولة، ولكنه كان رافضيّاً خبيثاً متعصباً للروافض، وكانوا في خفارته وجاهه، حتى أراح الله المسلمين منه في هذه السنَة في ذي الحجة منها، ودفن بداره، ثم نقل إلى مقابر قريش، فلله الحمد والمنَّة، وحين مات فرح أهل السُّنة بموته فرحاً شديداً، وأظهروا الشكر لله، فلا تجد أحداً منهم إلا يحمد الله(6)، وقد أفتى العز بن عَبْدِالسَّلَامِ: بِأَنَّهُ لَا مَلَامَ بِالْفَرَحِ بِمَوْتِ الْعَدُوِّ، وَمِنْ حَيْثُ انْقِطَاعُ شَرِّهِ عَنْهُ، وَكِفَايَةُ ضَرَرِهِ(7).
__________________
(1) تفسير البغوي (6/ 257).
(2) سيرة ابن هشام (1/ 635).
(3) مصنف ابن أبي شيبة (2/ 366).
(4) الطبقات الكبرى: ابن سعد (6/ 287).
(5) السنة: أبو بكر بن الخلال (5/ 121).
(6) البداية والنهاية (12/ 338).
(7) البريقة المحمودية، ص 192.