في بطون الكتب نَدَرَتْ أخبار الفتاة، إنها على الصحيح لم تتَعدَّ خبرًا أو خبرين، ورغم هذه النَّدْرَة فإننا نُؤْثِرُهَا وتُؤَثِّر هي فينا، فكفانا لهذا التَّفضل منَّا وهذا التَأثير فينا أنَّها ابنة أسد الله حمزة بن عبدالمطلب رضي الله عنه، عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأخيه من الرضاعة، صديق طفولته وصاحب عُمْرهُ المُتْرَع بالأحداث الجسام(1)، إنها أُمَامَةُ بنت حمزة بن عبدالمُطَّلِب القرشية الهاشمية.
ولعل هذا الموقف المشهود والمأْثور(2)، الذي يُشْعرنا بتأثُّرِنا الدائم بسيرتها رغم ندرة أخبارها هو أهم وأصح ما ورد عنها، ولنتأمله بين أحداث عمرة القضاء(3).
قال الحاكم: تواترت الأخبار أنه صلى الله عليه وسلم لما هلَّ ذو القعدة، أمر أصحابه أن يعتمروا قضاء عمرتهم، وألَّا يتخلف منهم أحد شهد «الحديبية»، فخرجوا إلَّا من استشهد، وخرج معه آخرون معتمرين، فكانت عدتهم ألفين سوى النساء والصبيان(4)، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة من الثَنيِّةِ(5) التي تُطْلِعُهُ على الحجون(6) راكبًا ناقته القصواء.
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاثاً، فلما أصبح من اليوم الرابع أتوا عليًا(7) فقالوا: قل لصاحبك: اخرج عنا فقد مضى الأجل، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم ونزل بسرف(8)، فأقام بها، ولما أراد صلى الله عليه وسلم الخروج تبعتهم أُمَامة بنت حمزة بن عبدالمطلب(9) تنادي: يا عم، يا عم(10).
كان حمزة بن عبدالمطلب قد تزوج سلمى بنت عميس وهي إحدى الأخوات التي قال فيهن النبي صلى الله عليه وسلم: «الأخوات المؤمنات»(11)؛ يقصد صلى الله عليه وسلم زوجته ميمونة بنت الحارث الهلالية، وأم الفضل امرأة العباس، وأسماء بنت عميس امرأة جعفر، وسلمى بنت عميس امرأة حمزة بن عبدالمطلب رضي الله عنهم.
وولدت سلمى لحمزة أُمَامَة بنت حمزة، وقيل: أمة الله بنت حمزة، ثم بانت منه فتزوجها شداد بن الهاد الليثي، وقيل: بل تزوجها شدَّاد بعد استشهاد حمزة في «أُحد»، قال عبدالله بن شداد: كانت بنت حمزة أختي من أمي، وكانت أُمّنا سلمى بنت عميس.
بيد أن أُمَامة كانت تعيش مع أمها سلمى بنت عميس بمكة في حجر شدَّاد بن الهاد، ولم تكن أُمَامَة بنت حمزة في طور الطفولة، ولكنها كانت تصعد على أعتاب طور الفتيات، ما نريد أن نَخْلُص إليه أنها كانت في سنٍ يسمح لها بتكوين الرأي واتخاذ القرار، ونحدس بأنها تجاذبت أطراف الرأي مع أمها سلمى بنت عميس حتى تركتها على قناعة برحيلها مع ابن عمها النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، حيث لم يُشر أي خبر إلى أن أمها أو زوج أمها حاولا ثنيها عن أمر الرحيل هذا، هذا ما نعتقده، ونفهمه.
المهمُّ أن أُمامَة تَنسَّمت في أبناء عمومتها النبي صلى الله عليه وسلم، وعليّ بن أبي طالب، وأخيه جعفر، شذا أبيها، لكأنها تعاني هموماً شديدة الوقع ثقيلة الوطأة لِبُعْدها عن أعمامها، وأبناء عمومتها، فتعلق فؤادها بهم، وثبتت بصرها عليهم، وتبعتهم تنادي: يا عم، يا عم.
وسمعها عليّ بن أبي طالب وهزَّ نداؤها نفسه، لكأنَّه اكتشف حقيقة غائبة وضعته في حالة ذهنية وعاطفية معينة، وجعلته يهرول نحوها يأخذ بيديها في حنو ويقول لزوجته الزهراء في تأثر: «دونكِ ابنة عمك احمليها»(12).
ولئن كانت أُمامة في طور الطفولة، فإن علياً رضي الله عنه يقصد أن تحملها فاطمة كما يُحمل الأطفال، ولكنها كانت في طور الفتيات، وهو الأرجح، وعليٌّ يقصد أن تحملها معها على دابتها، ثم توجَّه عليّ صوب النبي صلى الله عليه وسلم وما زال على حال تأثره: يا رسول الله، عَلَامَ نترك بنت عمنا بين ظهراني المشركين؟!
فأقره صلى الله عليه وسلم على إخراجها، بيد أن ما صار في ذهن عليّ وعاطفته، ثار نظيره في نفس أخيه جعفر، وكذلك نفس زيد بن حارثة، فتلاحقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم واحداً في إثر الآخر مختلفين في أُمامة وملء نفس كل منهم من الأمل ما يجعله يروم أن يحكم له النبي صلى الله عليه وسلم بضمِّ أُمامة إليه، وأسرع كل منهم يُبْدي من حيثياته ما يؤهله لضمها إليه.
يقول البراء بن عازب: فقال عليٌّ: أنا أحق بها، وهي ابنه عمي أخرجتها من بين ظهراني المشركين، وقال جعفر: ابنة عمي، وخالتها تحتي، وقال زيد: ابنة أخي (وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد آخى بينه وبين حمزة بن عبدالمطلب حين آخى بين المهاجرين)، فقضى بها النبي صلى الله عليه وسلم لخالتها، وقال: «الخالة بمنزلة الأم»، وقال لعليّ: «أنت مني وأنا منك»، وقال لجعفر: «أشبهت خَلْقِي وخُلُقِي»، وقال لزيد: «أنت أخونا ومولانا»(12).
دار صلى الله عليه وسلم بذهنه الشريف سريعاً مع القضية، وبقلب مُلْهَم، وعقل فاقه(13) حكم فيها حكماً ارتاح له الجميع، حكم بأُمَامَة لجعفر بن أبي طالب من خلال زوجته أسماء بنت عميس، كان الحكم مقبولاً شكلاً وموضوعاً، وارتاح له عليّ، وزيد، تماماً مثلما ارتاح له جعفر رضي الله عنهم.
ومما يقيم الدليل البيِّن على أن أُمامة كانت في طور الفتيات، وربما سلخت منه فترة ليست بالقصيرة، الحديث الذي رواه عليّ بن أبي طالب، بعد أن حكم صلى الله عليه وسلم بأُمامة لجعفر بن أبي طالب، قال عليّ للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، ألا تتَزوَّجُ ابنة حمزة، فقال صلى الله عليه وسلم: «إنها ابنة أخي من الرَّضاعة»(14).
وإلى رحاب المدينة الطيبة انتقلت أُمَامة بهمِّها وهدفها، ولكأنهما يمنحانها القوة حيث طفقت تجدُّ في السؤال عن قبر أبيها، أَتُرَاهَا تحاول إصلاح وترميم انكسار قلبها وَشَرْخِه؟ كَمَنْ بقيت في الظلام وتريد الآن أن تتخذ من مجرد معرفة قبر أبيها نوراً تدور حياتها في فلكه، وفي تحرِّيها له والوقوف أمامه، ستنفض كل هذه الأثقال عن قلبها وكاهلها، فبلغ ذلك حسان بن ثابت رضي الله عنه فقال:
تُسَـائِلُ عـن قَـرْمٍ هِـجَـانٍ سَمَيْـدَعٍ لدى البأسِ مِغْوارِ الصَّباحِ جَسُور(15)
فقلتُ لـهـا: إن الشَّـهـادة راحــــةٌ وَرِضْــــوَانُ رَبٍّ يــا أُمَـــامُ غـــفــــــــــور
دَعَاهُ إِلَهُ الخَلْقِ ذو العَرْشِ دَعْوةً إلى جــنــــَّةٍ فــيـــهـــــا رِضًـــا وســــــرور
ثم زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم من سلمة بن أم سلمة؛ ليبتسم وجهها بعد حزن طال وشحوب امتد، وقال صلى الله عليه وسلم حينها: «هل جَزَيْتُ سلمة؟»(16)، وسواء صحَّ الحديث أو حَسُنَ أو حتى ضّعُفَ فالأمر سواء أمام كرم النبي صلى الله عليه وسلم ودأبه في رَدِّ الجميل.
قلنا في الدراسة السريعة والخاصة بسلمة، وعمر، ابني أبي سلمة: أشرف اسم سلمة من الأحداث غير مرة، غير أنه توارى عن نظر التاريخ عامة سيرته ولم يبرز له إلا نادراً، فذكره حين زوَّجَ النبي صلى الله عليه وسلم من أمه أم سلمة، وذكره حين زوَّجه النبي صلى الله عليه وسلم من أُمَامَة بنت حمزة.
وجمع ابن إسحاق الخبرين في حديث واحد، فقال: حدثني من لا أتهم عن عبدالله بن شدَّاد، قال: كان الذي زوَّج أم سلمة من النبي صلى الله عليه وسلم سلمة بن أبي سلمة ابنها، فزوَّجه النبي صلى الله عليه وسلم من أمامة بنت حمزة وهما صبيان صغيران، فلم يجتمعا حتى ماتا، فقال صلى الله عليه وسلم: «هل جزيت سلمة؟».
وعقَّب ابن حجر على الخبر قائلاً: وأمَّا ما وقع من أنهما لم يجتمعا حتى ماتا، فالمراد أنها ماتت قبل أن يدخل بها، ومات هو بعد ذلك، وقال ابن الكلبي: مات سلمة قبل أن يجتمع بأمامة.
ووددنا لو قلنا: اكتفت المصادر –تقريباً- بما أوردناه عن أُمَامة، ولئن لم تتبع أُمَامة ابن عمها النبي صلى الله عليه وسلم، وراحت تبحث عن قبر أبيها لَدُفِنَت في أعماق التاريخ، وما ذَكَرَهَا ذاكر، ولا سمع بها سامع، وقد ضَنَّتْ علينا المصادر حتى بتاريخ وفاتها، غير أن الحاكم النيسابوري قال: «إن أمامة بنت حمزة عاشت بعد الرسول صلى الله عليه وسلم وروت عنه»(17).
وتشي روايتها عن ابن عمها بأن أحاديثه الشريفة صلى الله عليه وسلم كانت في بؤرة اهتمامها، وليس من بد أنها سمعت بشعور مفعم بالغبطة عبارته النبوية الرائعة: «يشفع الشَّهيد في سبعين من أهل بيته»(18)، فما بالها وما بالنا وهي ابنة سيد الشهداء، وعندما أَذِنَتْ شمس عمرها القصير بالغروب، لاقت أضعافاً كثاراً مما هفت إليه وحنَّت، وتاقت إليه واشتاقت(19).
__________________________
(1) المُتْرَعُ: المَلِيء، والأحداث الجِسام: الأحداث العظيمة والجسيمة.
(2) المرْويُّ والمشهور.
(3) عمرة القضاء: هي العمرة التي أداها النبي صلى الله عليه وسلم وألفان من أصحابه سوى النساء والصبيان، في ذي القعدة 7هـ عوضًا عن العمرة التي صُرِفوا عنها وفقاً لشروط صلح «الحديبية» في ذي القعدة 6هـ، وكانت أول عمرة قام بها النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون بعد الهجرة إلى المدينة، واستغرقت أحداثها 3 أيام تركت فيها قريش مكة للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وسُمِّيت بعمرة القضاء؛ إمَّا لأنها كانت قضاء عن عمرة الحديبية، أو لأنها وقعت حسب المقاضاة -أي المصالحة- التي وقعت في الحديبية (زاد المعاد 1/ 172).
وتُسمَّى بأربعة أسماء: القضاء، والقضية، والقصاص، والصلح (فتح الباري 7/ 5000).
(4) فتح الباري (7/ 5000)
(5) تعني الطريق في الجبل.
(6) جبل في مكة المكرمة، على سفحه تقع مقبرة المُعَلَّاة (أي أعلى مكة)، وهي مقبرة عامة لأهل مكة المكرمة، من قبل الإسلام وحتى الوقت الحاضر، وتقع في بداية طريق الحجون على يمين المتوجه إلى الحرم المكي، مدفون بها شخصيات وأعلام من الصحابة، أشهرهم السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، وبعض التابعين والعلماء والخلفاء.
(7) يعني أهل مكة.
(8) موضع يقع بين التنعيم ووادي فاطمة شمال غرب مكة على بُعد 12 كيلومتراً منها، وتُعرف حالياً باسم النورانية.
(9) أشار ابن الأثير في أسد الغابة ترجمة (7119) أن الواقدي ذكرها باسم عمارة بنت حمزة بن عبد المطلب، وفي نفس الترجمة ذكر ابن الأثير أن الخطيب البغدادي قال: انفرد الواقدي بتسمية عمارة في هذا الحديث وسماها غيره أُمامة، وذكر غير واحد من العلماء أن حمزة كان له ابن ذكر اسمه عمارة، وهو الصواب.
(10) صحيح البخاري (2699)، ومسلم (1783).
(11) أخرجه النسائي في السنن الكبرى (8387)، والطبراني (360) واللفظ له، والشوكاني في در السحابة (475) وقال: رجاله رجال الصحيح.
(12) حديث صحيح: أخرجه البخاري (2699)، ومسلم (1783).
(13) فاهم.
(14) أخرجه أحمد شاكر في المسند (2/ 184)، وقال: إسناده صحيح.
(15) القَرْمُ: السيد، والهِجَانُ: الأبيض، والسَمَيْدَعُ: الكريم الجميل، وقيل: الشجاع.
(16) ذكره ابن كثير البداية والنهاية (6/ 393)، وأخرجه البيهقي في سننه (7/ 122)، وابن سعد في الطبقات (8/ 114) بإسناد ضعيف.
(17) أخرجه الحاكم النيسابوري في المستدرك (4/ 66).
(18) حديث صحيح: صححه الألباني في صحيح الجامع (8093)، وصحيح أبى داود (2522).
(19) البداية والنهاية لابن كثير (3/ 14) (6/ 393)، طبقات ابن سعد (8/ 114)، أسد الغابة (6722) (7119)، الإصابة (10822).