كاتب المدونة: أحمد جمال
قد تمر في سوق من الأسواق، أو في طريق من الطرقات، فتسمع هذا أو ذاك يردد مقولة: إن الفلسطيني باع أرضه، أو مقولة: فلسطين أرض اليهود وليس للعرب حق فيها!
ما يحزنك حقاً في تلك اللحظة ليست المقولة نفسها، وإنما ما يحزنك الشخص قائل تلك العبارة، فتجده من بني جلدتك عربي مسلم مثلك؛ فيثير في نفسك حزناً وحسرة على ما آلت إليه عقول شعوبنا العربية والإسلامية من درجة غياب للوعي واتباع أصحاب العقول الخربة، التي تردد تلك الكلمات من حين إلى آخر، فمثل تلك الكلمات نجدها على ألسنة شباب ورجال، من يحمل في تحقيق هويته مسلماً، فهذا الأمر ليس من الغريب عنا؛ لأننا قد مزقنا إلى أحزاب وجماعات، يعادي بعضنا بعضاً، فأصبح عدونا لا يحتاج إلى الجهد الكبير في محاولة الإيقاع بيننا وبث الفتنة وخلق التناحر بين بني الإسلام،
فكان الغرب وما زالوا يعملون على إثارة النعرات المحلية التي تصل بنا إلى التمزق والفُرقة والتناحر المستمر، فبهذه الكلمات البسيطة نوضح بعض الادعاءات التي تثار حول فلسطين والقضية الفلسطينية، فرجوعاً للتاريخ ورداً على من يقول فلسطين ليست للعرب وإنما هي أرض اليهود.
إن دعوى اليهود في حقهم التاريخ في فلسطين ليس لها مبرر، وهي دعوى باطلة وفاسدة ليس لها مثيل في التاريخ وافتراء واضح عليه، فإنهم لم يعرفوا فلسطين إلا في بعض عصورها القديمة، ولم يملكوا إلا جزءاً منها لمدة وجيز كانت سيادتهم فيها هزيلة متقطعة، امتلأت أخبارها بالفظائع وبعد أن مزقهم الرومان شر ممزق في أوائل العهد المسيحي اختفت اليهودية من فلسطين اختفاء كاملاً، وخلت البلاد من اليهود خلواً يكاد يكون تاماً حتى أواخر القرن الماضي، فاليهود دخلوا وطننا وخرجوا منه كما دخله وخرج منه غيرهم من الأمم الغابرة(1).
وعند التعرض لجملة أن الفلسطيني باع الأرض وهو السبب الرئيس في تمكن اليهود من أراضي فلسطين هذه المقولة ما أكثرها في تلك الأيام التي نعيشها الآن، وجاء هذا الفكر نتيجة لغياب الوعي الكافي بقضايا الإسلام والمسلمين.
وتأكيداً على قدرة الإعلام الغربي في إقناع بعض من شبابنا ورجالنا بتلك الأكذوبة، التي من شأنها إثارة الفتنة وشق الصف العربي وانقسامه حول أحقية العرب في أرض فلسطين.
انشغلت جمهرة الباحثين بحشد الردود العلمية الموثقة التي تدحض فرية بيع الفلسطينيين أراضيهم للصهاينة، وتعاقبت الدراسات التي ترصد النسبة الضئيلة التي مثلتها الأراضي المباعة من إجمالي مساحة فلسطين، واقفة على هوية الباعة من الأسر الإقطاعية التي لم تكن فلسطينية ومن أسوأ عمليات البيع هذه ما قامت به عائلة سرسق اللبنانية التي تقيم في أوروبا، حيث قامت ببيع 240 ألف دونم من سهل مرج بن عامر، ونتج عن عملية البيع هذه تشريد حوالي 2700 عائلة فلسطينية،
لكن الانشغال بالرد العلمي على فرية دعائية كهذه حصر مواجهة هذه المقولة في خانة التوضيح والدفاع تقريباً، فسبيل المبادرة إلى اقتلاع الذريعة من جذورها هو المنطق لا الإحصاءات، فهل يحق للفلسطيني أن يعلن دولة مستقلة على رقعة يشتريها على مرمى حجر من هيئة الأمم مثلاً؟! واضح أن منطق الدعاية الصهيونية بخصوص فرية بيع الأرض، يُطلق العنان للخيالات الخصبة كي تتخيل جزراً يونانية معروضة للبيع وقد استحالت أرخبيل الحالمين بأوطان قومية ودول ذات سيادة، وميثاقها أرصدة سخية لا أكثر.
ولعل التناقض الجذري في الادعاء الصهيوني ببيع الأرض، أنه يفتح المجال لفلسطينيي الأراضي المحتلة عام 1948م، لإعلان أقاليم مستقلة ذات سيادة على ما تبقى بحوزتهم من أراض يملكونه مباشرة في العمق الفلسطيني المحتل، فجوهر الأمر لا يتعلق في الحقيقة بمن باع ومن لم يفعل، بل بأساس أن من يبيع أرضاً لا يمنح المشتري السيادة السياسية عليها، بهذا تكون قصة بيع الأرض قد تهاوت بضربة واحدة، حتى دون استحضار الكشوف الموثقة والبيانات العددية المخصصة للمجتمع العلمي، على أهميتها(2).
قال الله تعالى: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ ۖ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ۖ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثواب) (آل عمران: 195).
وتوضيحاً أكثر بالرجوع للحقائق والتواريخ في بادئ الأمر تم الاستيلاء على أراض صغيرة في فلسطين عن طريق رجال أعمال يهود من أمثال البارون فيدمون روتشيلد الذي صرف على بناء أول المستوطنات بعد تهجير أصحاب الأرض، وبنهاية العصر العثماني كانت لا تتعدى مساحة الأراضي التي بيد اليهود 2% بمن فيهم اليهود الفلسطينيون الذين كانوا يقطنون فلسطين كأي بلد بها عدد متنوع من الديانات التي تعيش في سلم وأمان.
فعمل البريطانيون لمده 30 عاماً على اغتصاب الأراضي الفلسطينية لصالح الحركة الصهيونية، وظهر هذا واضحاً وجلياً في تعيين بريطانيا مندوباً سامياً على فلسطين معروفاً بولائه وقربه للحركة الصهيونية هو هيربرت صمويل، فقام بإصدار أكثر من 100 قرار أسهمت وساعدت في بناء ما يسمى بدولة «إسرائيل».
كانت تلك القرارات ظالمة للشعب الفلسطيني صاحب الأرض وصاحب المكان، ومن أمثلة تلك القوانين عمليات التشجيع للهجرة اليهودية لفلسطين، واستخدام اللغة العبرية كلغة رسمية، كما أصدر مجموعة من القوانين الخاصة بالأراضي تقضي بنقل ملكية الأراضي من أصحابها الأصليين إلى ما ليس له حق فيها.
ويقول المؤرخ باتريك وولف: إن الغزو والاحتلال ليس حدثاً واحداً فقط أو معركة واحدة فقط، فالغزو هو هذا النظام الذي يسلبك حقك ويغتصب أرضك بطرق مختلفة وعلى مدى سنوات طويلة، وهذا ما رأيناه في عمليات غزو كثيرة وليست بعيدة عن منطقتنا العربية، فالغزو نوعان؛ غزو فكري، وغزو عسكري، وكلاهما أخطر من الآخر.
ففي فلسطين في بدايات الاستيطان كانت المجازر البشعة التي ارتكبتها العصابات الصهيونية في حق أهل الأرض دليلاً قاطعاً على تمسك الفلسطيني بأرضه، وخروجه منها في السابق كان خارجاً عن إرادته، ومن أمثال تلك المجازر دير ياسين، والطنطورة، واللد.. وغيرها من المجازر الكثيرة التي بطشت بأهلنا وما زالت إلى الآن تعمل على الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني الأعزل، فالخروج وترك الديار ليس للفلسطيني به اختيار.
ففي البدايات، وفي عام 1950م أُصدر قانون باسم أملاك الغائبين يسمح للكيان المحتل بمصادرة أراضي الفلسطينيين الذين هُجّروا من أراضيهم بعد النكبة، هذا القانون ثبَّتَ المصادرات التي حدثت أثناء الحرب والنكبة وأعطاها غطاء قانونياً بالزور والبهتان؛ ما سمح بالتصرف في أراضي المهجرين وإعطائها للمهاجرين اليهود الجديد، وبنهاية الانتداب البريطاني على فلسطين كانت الأراضي التي بيد اليهود لا تتعدى 5% من إجمالي الأراضي الفلسطينية، بحسب الباحث سلمان أبو ستة وباحثين أجانب وغربيين.
وبهذا لا بد أن نعلم جميعاً أن ما يقال حول فرية أن فلسطين ليست للعرب والفلسطيني فرط في الأرض وغيرها من الأقاويل إنما هي محض خيال وكلام عار من الصحة والدليل والبرهان، وهو دعاية غربية مغرضة كل هدفها إلقاء اللوم على الضحية، ومن المؤسف أن هناك من المسلمين والعرب من يصدقها ويتبنى مثل تلك الأقاويل التي من العيب أن يفكر فيها من الأساس.
فالنصر قادم لا محالة والحقوق سترد لأصحابها في يوم ما، تحقيقاً لوعد الله، فقد ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود حتى يقول الحجر وراءه اليهودي تعال يا مسلم هذا يهودي ورائي فاقتله»، وفي لفظ مسلم: «لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر فيقول الحجر والشجر يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله إلا الغرقد»(3).
________________________
(1) مصطفى مراد الدباغ، بلادنا فلسطين، إصدار دار الهدى، طبعة 1991م.
(2) أرشيف نشرة فلسطين اليوم، مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات 2018، بتصرف.
(3) رواه البخاري، ومسلم.