لم يعد مقبولاً، أن يعطي قادة العمل الإسلامي -وفي كل المستويات – فضول أوقاتهم، للدعوة ومتطلباتها، وما تحتاج من جهد، وما يلزمها من وقت، خصوصاً، أن الواجبات أكثر من الأوقات
2- لم يعد مقبولاً، أن يعطي قادة العمل الإسلامي -وفي كل المستويات – فضول أوقاتهم، للدعوة ومتطلباتها، وما تحتاج من جهد، وما يلزمها من وقت، خصوصاً، أن الواجبات أكثر من الأوقات، فلو صرف المرء جزءاً كبيراً من وقته في عمل، فمتى يؤدي العمل الموكل إليه ؟.
هذا موظف، يقضي سحابة يومه في الوظيفة، وذاك تاجر منهمك بتجارته، وواحد يحمل من أعباء تفاصيل العمل اليومي لدنياه، ما ينوء بحمله عصبة من الرجال، فمن للعمل الإسلامي إذن.
نريد الأخ التاجر والطبيب والمهندس، ونريد التخصص في كل شؤون الحياة، ولكن بنفس الوقت، نريد قادة لا هم لهم سوى الدعوة.
نحن في زمن تشعبت فيه التخصصات، وملئت الحياة بالتعقيدات، واستغرقت الدنيا بالتفصيلات، ونحتاج في كل باب من الأبواب، إلى من يعطيه حقه، الذي يقتضيه، وحتى يتم المراد، لابد من تفرغ.
الهموم كثيرة، والتحديات متنوعة، والمشكلات التي تواجه الأمة خطيرة، والناس على أعصابهم يرقبون المشهد، وينظرون لأصحاب العمل الإسلامي، بمنظار كبير، وهذا يضيف مسؤولية، إلى أختها، تجعل ثقل الأمانة أكبر وأعظم، فيجب أن يكون العاملون على مستوى هذا التحدي، وهذه الثقة، فلابد من جد واجتهاد، لنيل المراد.
والعمل الدعوي، في يومنا الحاضر، يحتاج إلى استنفار الطاقات، وتوظيف القدرات، وتنشيط الفعاليات، وعاملين من نوع متميز، وهذا يحتاج إلى مجموعة لا هم لها سوى هذا العمل، ولا يصح أن ينشغلوا بسواه، وهذا بدوره يكون أحد عوامل النجاح، وربما سماه بعضهم (التفرغ الإبداعي).
وكثير من الأعمال شبه معطلة، وربما يكون القيام بها من الواجبات، أو حتى من المندوبات، وسبب هذا، أن القائم على العمل، ليس متفرغاً له، لذا يمنحه فضول أوقاته، فلا تترقب للعمل أن يكون مثمراً، إذا لم يكن حاملو همه، على رأسه يرعونه في كل ساعة، ويراقبون خط سيره، في كل يوم، وهنا يأخذ العمل جديته، التي تتناسب مع حجم المسؤولية، في أمانة المشروع، الذي أخذ على عاتقه القيام به.
نعم هناك عقبات، ولكن لابد من التفكير الجاد للتغلب عليها، ونعم هناك عوائق، ولكن لابد من تجاوزها، ونعم هناك موانع وحواجز وسدود، ولكن العاملين، يستطيعون – بعون الله – عبورها، إذا أخذوا بأسباب التدبير، وقواعد التدبر.
وفي نوع من التعبير، عن هذا الغرض، والحاجة إليه، تبرز الضرورة بكل أبعادها، لتأكيد هذا الفقه الدقيق. ورحم الله من قال : لو كلفت شراء بصلة، لم أتعلم مسألة.
من هنا أفتى العلماء، بجواز دفع الزكاة لطالب العلم المتفرغ له– على تفصيل في المسألة – وهذه الفتوى تمنحنا أبعاداً واسعة، وأفقاً في مجال ما نذكر، سواء من حيث التأصيل للمسألة، أو البحث عن مواردها، لكن الأمر يحتاج إلى دراسة متكاملة، حتى يستطيع العاملون، تنزيل الفتوى على الوقائع، حاجة ومنزلة.
ولعل في مثل هذه الأشياء جاء الحديث الصحيح. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : ( إن الله تعالى يقول : يا بن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسدُّ فقرك ، وإلا تفعل ملأت يديك شغلا ولم أسد فقرك ) رواه الترمذي وابن ماجة والإمام أحمد في مسنده وغيرهم ، وحسنه الترمذي وصححه الألباني
وهل هناك عبادة أعظم من عبادة الدعوة إلى الله، والعمل في مصالح المسلمين؟
أما دفع الزكاة، للمتفرغ للعبادة المحضة والذكر، كالصلاة والاستغفار والطواف وغير ذلك، فهذا غير جائز، وهذا فارق مهم بين الحالة الأولى [ التفرغ للعمل الإسلامي ] والثانية [ التفرغ للصلاة والذكر اللساني ].
وقال النووي في المجموع: قالوا -أي الشافعية -: ولو قدر على كسب يليق بحاله إلا أنه مشتغل بتحصيل بعض العلوم الشرعية بحيث لو أقبل على الكسب لانقطع عن التحصيل حلت له الزكاة، لأن تحصيل العلم فرض كفاية.
( وأما ) من يتأتى منه التحصيل فلا تحل له الزكاة إذا قدر على الكسب؛ وإن كان مقيما بالمدرسة. هذا الذي ذكرناه هو الصحيح المشهور، وذكر الدرامي في المشتغل بتحصيل العلم ثلاثة أوجه: ( أحدها ) يستحق وإن قدر على الكسب. ( والثاني ) لا. ( والثالث ) إن كان نجيبا يرجى تفقهه ونفع المسلمين به استحق وإلا فلا، ذكرها الدرامي في باب صدقة التطوع، وأما من أقبل على نوافل العبادات -والكسب يمنعه منها، أو من استغرق الوقت بها- فلا تحل له الزكاة بالاتفاق؛ لأن مصلحة عبادته قاصرة عليه، بخلاف المشتغل بالعلم.انتهى.
فهذا نموذج من النماذج، التي تفتح آفاقنا الذهنية للمطلوب. وليس المقصود منه الحصر ولا القصر، وإنما التدليل على المسألة بطرف من أطرافها، وصورة من صورها، والأمر أوسع من هذا، والتفصيل فيه أكثر.
والصحابة الكرام، فقهوا هذا الأمر جيداً، وأدركوا ضرورته، وفهموا أهميته، واستوعبوا الدرس في هذا، من الأيام الأولى، بعد انتقال نبينا – صلى الله عليه وسلم – إلى الرفيق الأعلى.
فهذا سيدنا الصديق– رضي الله عنه – تسلم منصب الخلافة, و في أول يوم من خلافته يضع على كتفيه لفافة كبيرة من الثياب، ليبيعها في السوق، ما هذا؟ رآه عمر وأبو عبيدة – رضي الله عنهما – فوقفا يسألانه: إلى أين يا خليفة رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ قال: إلى السوق، قالا: لماذا! وقد وليت أمر المسلمين؟ قال: فمن أين أطعم أولادي؟ قال عمر: انطلق معنا نفرض لك شيئاً من بيت المال، تعويض تفرغ.
أنظر إلى هذا الفقه العميق، من أبواب السياسة الشرعية، التي من خلالها يساس الناس، فلو ترك خليفة المسلمين، يعمل بالتجارة، ثم ما فضل من وقت، يكون للخلافة، لكانت نكسة كبيرة تحل بالمسلمين، ولكن الله سلم، إذ كان الربانيون الفقهاء، من أمثال سيدنا عمر وسيدنا أبي عبيدة، بالمرصاد لمواجهة هذه النازلة، بوعي دقيق، وسياسة حكيمة.