في جنوب أفريقيا.. رفعت الطفلة ذات العشر سنوات يديها إلى السماء بثقة وبدأت تتحدث بلغةٍ بسيطة وبثقة كاملة:
– إلهي إذا سمحت أرسل لنا زجاجة ساخنة اليوم.. الطفل الرضيع اليتيم قد يموت إذا لم يحدث هذا!
وأردفت:
– أرجوك أرسلها لنا بعد الظهر.. وأنا أحتاج أيضاً دمية صغيرة فأنت تعلم كم أحبها!
في ذلك اليوم نفسه وصل طرد بريدي مرسل من عدة أشهر من إحدى الجمعيات يحتوي على كل المطالب!
سبحانه يجود بالنوال قبل السؤال.
الشعور بالقرب فضلٌ يختار الله له الصفوة من عباده، واسمهم “الْمُقَرَّبُونَ”؛ (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ {10} أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ {11}) (الواقعة).
كان عيسى عليه السلام: (وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ {45}) (آل عمران).
من أسمائه تعالى “القريب”، وحين حكى سؤال الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربهم، قال: (فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) (البقرة:186)، ولم يقل: فقل لهم إني قريب؛ لأن من مقتضى قربه أن يخاطبهم مباشرة.
وذكر إجابة الدعاء؛ لأنها من مظاهر قربه بسمعه لهم، واطّلاعه عليهم، وقدرته ورحمته.
ثم طلب منهم أن يستجيبوا له ويؤمنوا به، وهذا من مظاهر قربهم منه، واستحضار وجوده، وامتلاء القلب باستشعار ألوهيته، والتحقق بمعاني أسمائه الحسنى؛ (فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ {186}) (البقرة).
هما نوعان من القرب:
– قرب الله من عبده.
– وقرب العبد من ربه.
فمن تقرَّب منه شبراً تقرَّب الله منه ذراعاً، ومن تقرَّب منه ذراعاً تقرَّب الله منه باعاً، وله الفضل والمنة.
القرب يعني وجود فاصل بين العبد والرب؛ فالعبد عبدٌ، والرب ربٌّ.
وفي التنزيل: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ {16}) (ق)، (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ {85}) (الواقعة)، وفي السُّنة: «أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ مَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلاَ غَائِباً إِنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعاً بَصِيراً إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ» (رواه أحمد، والطبراني عن أبي موسي).
تعبير القريب يدل على الفصل والتمييز، وقطع دابر الأوهام والظنون والتلبيس، وحفظ مقام الألوهية، وعدم الخلط بينه وبين مقام المخلوقين؛ سواءً كانوا من الملائكة أو من الأنبياء أو من غيرهم.
نحاول أن نتقرَّب إلى الله، أن نكون قريبين منه بالتفكُّر في مخلوقاته، والتأمل في وحيه وآياته، ودوام ذكره ومناجاته، والإحسان إلى خلقه، ونقول: إنه قريبٌ منا بسلطانه وسمعه وبصره وعلمه وإحاطته، ولكننا لا ندّعي أننا قريبون من الله، فهذه تزكية للنفس يعزف عنها أصحاب القرب الصادق، ومن ادّعاها حُرم منها في الغالب.
حين نحاول الاقتراب تنبعث فينا روحٌ مختلفة وحياة جديدة، تولد لغة تعطي للكلمات معنى أعمق وأوسع وأبعد مما تعوّدنا أن نفهم، وبها تتجلّى لنا أسرار التنزيل فتلامس شغاف قلوبنا، وتسري في كياننا، وتفتح عيوننا على عوالم هائلة هي بقربنا ولكننا لا نراها.
(لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ {22}) (ق).
في الأثر المروي عن حارثة حين وصف حقيقة الإيمان فَقَالَ: عَزَفَتْ نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا، وَأَسْهَرْتُ لِذَلِكَ لِيَلِي، وَأظمَأتُ نَهَارِي، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِّي بَارِزاً، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ يَتَزَاوَرُونَ فِيهَا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ النَّارِ يَتَضَاغَوْنَ فِيهَا، فَقَالَ: “يَا حَارِثُ، عَرَفْتَ فَالْزَمْ”, ثَلاثًا. (أخرجه البزار، والطبراني، والعقيلي من طرق).
تمرّ في العمر لحظات قليلة أقرأ فيها القرآن بشيء من حضور، فأتذكر هذا المعنى وأتمناه، وأدرك أنه بعيد المنال، وتبقى تلك اللحظات ذكرى جميلة تؤكد أن الأمر ممكن وإن كان له أهله الذين اختارهم الله واصطفاهم.
تمضي سحابة العمر والمرء في السفوح، يتشبث بمثل قوله تعالى: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {14}) (الحجرات).
حين نحاول الاقتراب تتغير الأشياء والأفعال فنؤديها بسموٍ وحبٍ وإيمان وذوق، وتتحول العادات إلى عبادات وقربات.
حين نحاول الاقتراب نفهم الكون بطريقة أفضل، وندرك طرفاً من الأسرار والحكم في الخلق، ونستوعب اللطف الرباني في خلق الأنثى والذكر، السرور والألم، السعادة والشقاء، الحياة والموت، وفي كل ما قدّر وقضى، وله الحكمة البالغة.
حين نحاول الاقتراب ندرك أن بركة الدعاء ليست مهدئاً نفسياً يوصف لمكتئب، ولا وهماً يتداوله درويش، بل تعامل واثق مع الله الذي بيده كل شيء، والذي وضع نواميس الكون ونظامه الدنيوي، وجعل من نواميسه اللُّطف والرحمة يمضي بها قدر الله في الوقت والمكان الذي يشاء.