اللوم: عذل الإنسان بنسبته إلى ما فيه لوم. يقال: لمته فهو ملوم. قال تعالى: ﴿فلا تلوموني ولوموا أنفسكم﴾ (إبراهيم:22)، ﴿فذلكن الذي لمتنني فيه﴾ (يوسف:32)، ﴿ولا يخافون لومة لائم﴾ (المائدة:54)، ﴿فإنهم غير ملومين﴾ (المؤمنون:6)، فإنه ذكر اللوم تنبيهاً على أنه إذا لم يلاموا لم يفعل بهم ما فوق اللوم. وألام: استخف اللوم، قال تعالى: ﴿فنبذناهم في اليم وهو مليم﴾ (الذاريات:40)، والتلاوم: أن يلوم بعضهم بعضاً، قال تعالى: ﴿فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون﴾ (القلم:30)، وقوله: ﴿ولا أقسم بالنفس اللوامة﴾ (القيامة:2)، قيل: هي النفس التي اكتسبت بعض الفضيلة، فتلوم صاحبها إذا ارتكب مكروهاً، فهي دون النفس المطمئنة، يقال: النفوس ثلاث مراتب؛ الأولى: النفس الأمارة بالسوء، قال تعالى: ﴿وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء﴾، والثانية – وهي فوقها -: النفس اللوامة، كما ذكر، الثالثة: النفس المطمئنة، قال تعالى: ﴿يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية﴾، وقيل: بل هي النفس التي قد اطمأنت في ذاتها، وترشحت لتأديب غيرها، فهي فوق النفس المطمئنة، ويقال: رجل لومة: يلوم الناس، ولومة: يلومه الناس، نحو سخرة وسخرة، وهزأة وهزأة، واللومة: الملامة، واللائمة: الأمر الذي يلام عليه الإنسان.
وجبل الإنسان على الخطأ؛ “كل ابن آدم خطاء”، ومن ذا الذي يسلم من العيب والقصور والضعف والتقصير؟ لذا قالوا: لكل جواد كبوة، ولكل سيف نبوة، ولكل عالم زلة، ولكل إنسان عثرة، فعامل المرء على هذه القاعدة، حتى تكون واقعياً وعملياً، ولا تطلبه منه الأخرى، لأنك تبحث عن محال، وبهذا تستمتع بالأمر، رغم فيه العوج، أما إذا أردنا أن نتعامل مع الناس بلغة أنه لا يقع منهم الزلل والقصور والذنب، فنكون كمن يحرث في الهواء، ويكتب على الماء، ثم في هذا يكون الإنسان قد خسر خسراناً مبيناً، فيلتفت فلا يرى أحداً بجانبه، لأنه طلب المحال، ولم يصبر على زلات الإخوان.
إذا كنت في كل الأمور معاتباً صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه
فعش واحداً أو صل أخاك فإنه مقارف ذنب تارة ومجانبه
إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه
هذه الواقعية هي التي تحل كثيراً من الإشكاليات، وتفتح الباب لتجاوز المعضلات، وتكون سبباً في فاتحة عمل جماعي، له خيره وفضله ومكانته.
الإنسان مركب من جملة من القضايا والمسائل، ومنها مشاعره وعواطفه ونفسيته، وحسه المرهف، وهو ما دفع علماء النفس والاجتماع، أن يدرسوا هذه الظاهرة في الإنسان، حتى يحسنوا التعامل معها، ومع خصائصها وأصولها وفروعها وآثارها ونتائجها، وكان من ذلك تلك الدراسات الكثيرة والمعمقة، في دراسة علم نفس الإنسان، وهذا دليل على ضرورة معرفته، ففقيه النفس، هو من يجيد التعامل معها، ويحسن رعايتها والإفادة من قدراتها وطاقاتها.
وهناك فرق كبير بين اللوم والمتابعة، كما هناك بون شاسع بين المحاسبة بشكلها العلمي المنضبط وبين اللائمة الدائمة، أما الفرق بين التذكير والتنبيه ولفت النظر، ووضع النقاط على الحروف، وبين اللوم الدائم، فظاهر، وفي الوقت نفسه، يجب التمييز وإثبات الفروق، بين المراجعة، والتأشير على جوانب التقصير والخلل، ورصد الإيجابيات، وبين منهج اللوم المنفرد.
ولعل من أبرز أسباب اللائمة المستمرة، أمرين اثنين، يلوح منها خلل أخلاق في منظومة العمل، في كليهما، الأول: شخصنة الأمور، حيث صاحبها يحاول ربط الحدث بالشخص، فتكون عين الرضا، وعين السخط، وهذه جرَت على العمل الويلات، وأوقعت العاملين في إشكاليات ودوامات، لها أول وليس لها آخر، والثاني: العجز القيادي، والجهل بمكنونات النفس، وما يرتقي بها، وما يحبطها ويدمرها، فتراه لا يلوي على أحد، ولا يقدر طبيعة هذه النفس، ولا يراعي سبل الإيجاب في التعاطي معها، فيتعامل معها كأنها آلة، بمقياس مادي محض، دون أن يلتفت لجملة المعاني آنفة الذكر.
ولعل مما ابتلي به بعض الناس، وقوع اللائمة بينهم، حتى صار منهجاً مقعداً، وأصبحوا يتلاومون، لا ينتجون عملاً، ولا يتقدمون خطوة نحو الأمام، بل بعض الناس، يجعل اللائمة المستمرة سلم الوصول إلى أغراضه، وتحقيق أهدافه، وإذا صح التعبير عن هذا قلنا: صنف من الذين يتصدرون للعمل، لا يجيدون غير اللوم والعتب.
اللائمة المستمرة، سبيل من سبل الإقعاد، ومنهج من مناهج الضياع، وعنوان على الفشل، وحالة قلق تدفع نحو إدخال جماعة العمل في دهليز الجدل، وتراشق الكلمات السلبية، وتبادل الاتهامات، خصوصاً وقت الملمات، والمواقف الخطرات، والظروف الحرجات، والوقائع المزعجات، والنفس البشرية، تكره اللائمة المستمرة، وتحدث لدى المتلقين لها نتوءات اندفاع نحو مربعات ليست مريحة، والأصل في الأخ مع أخيه، فضلاً عن القائد مع من يقود، أن يحملهم على ساحات الإبداع، وإطلاق أسار المواهب في عالم البناء الرحب، الذي تتجلى فيه قدرات الإفادة من جهود الآخرين، واستثمارها في دوائر العمل المنتج.
يحكي الشيخ علي الطنطاوي – رحمه الله – أنه في سن مبكرة كتب قصيدة، ثم عرضها على أحد الأساتذة، فوبخه ولامه وعنفه، فما كتب قصيدة بعدها، وصديق له كتب قصيدة، دون مستوى قصيدته، عرضها على أستاذه، فشجعه ونصحه، فصار من الشعراء المرموقين.
كان من منهج نبينا – صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه – “ما بال أقوام”، يشير ولا يسمي، يؤكد المعنى دون ذكر الشخص، يعالج الحالة، من غير إحراج لأحد، وهذا هو الأصل، في قيادة العمل، لأننا نبحث عن النتيجة وإصلاح الخلل، ولو مع مراعاة المشاعر، وتقدير النفوس، طبعاً هذا هو المنهج العام، ولا يعني أن يكون مطرداً، وينطبق على كل حالة، لأن اتخاذه قانوناً لا محيد عنه، في كل شيء، يحدث خللاً كبيراً، وتضييعاً للإدارة المنضبطة، والقضاء الصارم، والقيادة الحازمة، ولكل واقعة خصوصيتها ودلالتها، وتوظيفها في الصورة المناسبة، لذا قال لأحدهم: “إنك امرؤ فيك جاهلية”، فهناك عموم وخصوص، ولا تعارض بين عام وخاص، فيعمل بالخاص فيما تناوله، وبالعام في الباقي، من هنا تكون اللائمة المستمرة، خطراً يجب الحذر منه.
ففي الصحيح، من حديث أَنَسٍ – رضي الله عنه – قَالَ: “لَقَدْ خَدَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ، فَوَاللَّهِ مَا قَالَ لِي: أُفٍّ قَطُّ، وَلَمْ يَقُلْ لِشَيْءٍ فَعَلْتُهُ: لِمَ فَعَلْتَ كَذَا، وَلا لِشَيْءٍ لَمْ أَفْعَلْهُ أَلا فَعَلْتَ كَذَا”، انظر إلى خلق البناء، الذي كان عليه قدوتنا – صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم – وهو الذي كان ينظم الجيوش، ويقود الحياة بكل مفاصلها، ويرتب سياسة الدولة بسائر تفاصيلها، لكنه لم يكن مؤنباً في كل طالعة ونازلة، ولا لائماً في كل أمر، وهذا لا يتنافى مع المتابعة، وحسن الإدارة، فبعض الناس يفهم الإدارة والقيادة أنها أن تحمل عصاك، في كل مسألة، وتحول حياتك إلى محكمة مستمرة، وقانون العقاب يلصق على كل باب عمل، وفاتهم أن التربية قبل القانون، ثم تكون القاعدة الذهبية الرائدة: إن الله يزع بالسلطان، ما لا يزع بالقرآن، مكملة للحقيقة الأولى، فلا نأخذ شيئاً وتغيب عنا أشياء.
قلت يوماً لأحد الإخوة: لماذا لا تشترك مع الأخ فلان في العمل؟ فقال: لا أستطيع تحمل طباعه، فالأخ الكريم، لا يعرف إلا العتب واللوم، ولا ينظر إلا إلى نصف الكأس الفارغة، وعملت معه فترة، وخلالها، لم أسمع منه كلمة تشجيع أو ثناء، أو حتى استحسان لعمل قمت به، خلال تلك الفترة، فكيف تريدني أن أعمل معه؟!
عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن الله لم يبعثني معنِّتاً ولا متعنتاً، ولكن بعثني معلماً ميسراً” (رواه مسلم).
وعن أنس رضي الله عنه قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَهْ مَهْ (ما هذا؟)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تُزْرِموه (تقطعوا بوله) دعوه”، فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له: “إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن”، فأمر رجلاً من القوم فجاء بدلو من ماء فشنه (فصبه) عليه. (رواه البخاري).
علماء التنمية البشرية يحذرون من هذا الصنف من الناس، الذين يكثرون من اللوم والعتب، ويبالغون في الشكوى، ويعتبرونهم هدامين للعمل، ويصفونهم بالفاشلين في أنفسهم، المفشلين لغيرهم، ويسمونهم “لصوص الطاقة” لأنهم بأسلوبهم هذا يهبطون بمستوى عزيمتك، ويسرقون طاقتك، ويشعروك بالإحباط، ومن ثم يكون الأداء العام، في هبوط مستمر، كما المنبت، فلا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى، وأكبر كارثة، أنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
الخلاصة: العمل الإسلامي يحتاج إلى مراجعات مستمرة، ومتابعة ومحاسبة ودقة وعمل مؤسسي، وحكم وقضاء، وحسن إدارة، مع الرفق والحسنى، والنصح والتسديد والتقريب، وتجنب اللوم المستمر، والعذل الذي لا يتوقف، وبهذا تتكامل المعادلة، فجلد الذات المستمر، وعذل العاملين الذي لا ينقطع، يعتبر من المعوقات الكبيرات، لأنه يعمل على الإحباط، وكسر الإرادات، ويكون معول هدم للناشطين والناشطات؛ “وما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل”.