تتكرر محاولات الصهاينة في الاعتداءات على المسجد الأقصى على أساس أنه بني على أنقاض هيكل سليمان، والذي لم يتبقَّ منه إلا حائط واحد حسب زعمهم، يذهبون إليه يؤدون صلواتهم وهم يترنحون للأمام والخلف، ويبكون بكاءً مراً على وقع خرافة ليس لها وجود إلا في عقليتهم التي تؤمن بأن هذا الحائط هو من بقايا الهيكل، والذي سيسكنه الإله يهوه مع شعبه المختار بعد أن ينتقم من البشرية في معركة آخر الأيام والتي يسمونها “هرمجدون”، حيث يقول الرب: “قل لكل أصناف الطيور ولجميع وحوش البرية اجتمعي وتعالي احتشدي من كل جهة حول ذبيحتي التي أعدها لك، ذبيحة عظيمة أقيمها على جبال إسرائيل فتأكلين لحم الجبابرة وترتوين من دماء رؤوس الأرض، فتأكلين شحماً حتى الشبع وتشربين دما حتى السكر من ذبيحتي التي أعددتها لك” (39 حزقيال، 17 – 18).
فالعقلية التي تفتعل في كل مرة الاعتداءات على مقدساتنا هي عقلية مريضة ومهووسة بأفكار الانتقام إلى حد شرب الدماء والارتواء منها!
ولا يعد النص أعلاه إلا واحداً من مئات النصوص التي تحث على الانتقام والعدوانية المحشو بها كتابهم المقدس، وتؤيدهم به العقلية النصرانية التي تضع أسفارهم مع الأناجيل في كتاب واحد، والاختلاف فقط في شخصية المسيح المنتظر.
ومثلما يصاب الأفراد بعقد النقص والدونية، كذلك تصاب به بعض الأمم التي تتعرض معتقداتها للإهانة والاحتقار والدمار من قبل الغير، وهذه عقدة العقد في الفكر الصهيوني الذي يعتقد بتفوقه على الآخر مع مشاعر نفسية دفينة بالاحتقار والدونية لا مثيل لها، ولو امتلكوا أسلحة الدنيا كلها، والإثبات التاريخي لكذبة حائط المبكى ليس بالأمر الصعب مطلقاً.
فلو سلمنا جدلاً بوجود هيكل سليمان (ت 931 ق.م)، ثم انقسام مملكته الصغيرة إلى مملكتين؛ “إسرائيل” في الشمال، و”يهوذا” في الجنوب وعاصمتها أورشليم، فهذا الهيكل لم يكن بناءً فخماً يشابه معابد الحضارات المعاصرة كالآشورية والفرعونية، حيث أثبتت الدراسات التاريخية وجود هيكلين كنعانيين في بلاد الشام يعود تاريخهما لنفس الفترة يماثلان في أوصافهما ما يسمى بهيكل سليمان، وجاء في التوراة: “فكان طول الهيكل الذي شيده سليمان للرب ستين ذراعاً، وعرضه عشرين ذراعاً، وارتفاعه ثلاثين ذراعاً” (6 ملوك الأول، 2)، ولم يكن للإسرائيليين يد في بنائه، وحسب شهادات التوراة نفسها، فقد أنشأه بناة من صور، وحتى مواد البناء تم جلبها من هناك، وهذا الأمر مفصل تفصيلاً كاملاً في التوراة المتداولة.
أزيل هذا الهيكل عن الوجود ونهبت محتوياته عندما غزا نبوخذ نصر أورشليم وتركها أثراً بعد عين (25 ملوك أول 8 – 9)، وسبى أهل أورشليم إلى بابل، ولم يكن هذا الهيكل مقدساً بين فترة إنشائه وإزالته، فقد تمت عبادة الأوثان فيه، ومورس فيه نوع من البغاء تسميه التوراة بالبغاء المكرس، حيث تقوم المومسات بجمع المال من أجل ترميم الهيكل وبإشراف للكهنة أنفسهم، حيث تقول التوراة عن اليهود: “فهجروا هيكل الرب إله آبائهم وعبدوا تماثيل عشتاروت والأصنام” (24 الأبام الثاني 8).
بعد سقوط بابل عام 539 ق.م على يد الفرس الأخمينيين سمحوا للإسرائيليين بإنشاء هيكل جديد، وكان أصغر من الهيكل الأول، حتى إن التوراة رفعت كورش الوثني لمصافي الأنبياء؛ لأنه سمح لهم بإعادة هيكل جديد حيث جاء: “هذا ما يقوله كورش ملك فارس، لقد وهبني الرب إله السماء جميع ممالك الأرض وأوصاني أن أشيد له هيكلاً في أورشليم في مملكة يهوذا” (عزرا، 1،2)، “وكان هذا الهيكل هزيلاً قاسياً بالهيكل الأول” (3 عزرا، 12).
ولا توجد أدنى إشارة إلى أنه كان في موضع الهيكل الأول، وهذه حقيقة تتغاضى عنها الأدبيات اليهودية التي تدعي أن مكان الهيكل الثاني كان على أساس أنه في نفس موضع الهيكل الأول والثاني، وأن الأقصى يحتل مكانهما.
وإلى عام 332 ق.م كانت أورشليم تحت الوصاية الفارسية؛ حيث دخلت في حكم الإسكندر الأول على أثر هزيمة الفرس أمام اليونانيين.
وبعد انقسام إمبراطورية الإسكندر بين قادته، أصبحت فلسطين أرضاً للصراع بينهم؛ مما أدى إلى ضعفهم وانتشار الثقافة اليونانية بين اليهود، إلى أن دخل القائد الروماني أنطوخيوس الرابع أبيفان عام 168 ق.م أورشليم، ودمر الهيكل الثاني، ورغم إعادة إصلاحه فإنه تعرض للنهب والتخريب عام 54 ق.م على يد القائد الروماني كراسوس وتركه أثراً بعد عين، وكانت هذه بداية نهاية الهيكل الثاني.
وعندما دنس أنطوخيوس الرابع الهيكل وذبح الخنازير بداخله ثار اليهود، ولكن عندما هدمه كراسوس لم يحركوا ساكناً، فقد كانوا قد فقدوا كثيراً من حماسهم الديني تحت وطأة الثقافتين اليونانية والرومانية، حتى إن سفر المكابيين يصف الهيكل: “امتلأ فسقاً وفجوراً، حتى إن الغرباء أخذوا يمارسون أنواع العهر والفجور فيه ويضاجعون النساء داخل أروقته” (6 المكابيين الأول، 4 – 3).
ولكسب ود الرعايا اليهود فقد عمل هيروس الآدومي الذي كان حاكماً على فلسطين من قبل الحكومة الرومانية في فلسطين، على بناء هيكل جديد لرعاياه اليهود عام 19 ق.م، وهذا الهيكل لا ذكر له في التوراة، وكان هيكلاً سياسياً واقتصادياً وسياحياً أكثر من أي شيء آخر، ولكسب ود الرعايا اليهود واسترضائهم من قبل السلطات الحاكمة، وكان مركزاً للمرابين والصيارفة وكل الموبقات، وهو الذي سماه المسيح بمغارة اللصوص، وأن المسيح نفسه دفع ضريبة الهيكل التي فرضه الرومان على اليهود (متى 17)، ووصف العاملين فيه وقال لهم: “مكتوب إن بيتي بيت للصلاة يدعى أما أنتم فجعلتموه مغارة لصوص” (متى 21، 13)، وهذا هو الهيكل الثالث، ولا توجد أدنى إشارة إلى كونه بني على أنقاض الهيكل الثاني.
تعرض هذا الهيكل للدمار الكامل عندما دخل القائد الروماني تيطس أورشليم عام 70م على عهد الإمبراطور الشهير نيرون بعد ثورة اليهود، ففتك بهم وهدم الهيكل، ولم يُبقِ على حجر واحد فيه، لتنتهي آخر حلقة من حلقات الهيكل عام 135م عندما دخل القائد الروماني هارديان أورشليم وقضى على الوجود اليهودي تماماً، وأجلى اليهود من أورشليم، وحرث موضع الهيكل نفسه وأنشأ مستعمرة جديدة سماها العرب “إيلياء”.
هذه الخلاصة السريعة تعطينا فكرة عن ثلاثة هياكل قامت لليهود داخل أورشليم منذ عهد سليمان وإلى الآن، ولا توجد حقيقة تاريخية بأنها كانت في نفس الموضع، وأن شيئاً بقي منها، وأنها كانت مراكز للفساد والفجور والعهر والبغاء، وأن بناء المسجد الأقصى فوق الهيكل مجرد خرافة عملت الصهيونية الحديثة على ترسيخها في عقول المهووسين من اليهود، وأن كون هذا الحائط هو من بقايا الهيكل الأول أسطورة لا أساس لها، فبعد قيام “إسرائيل” كتب بن جوريون بأنه لا معنى لـ”إسرائيل” دون القدس، ولا معنى للقدس دون الهيكل، وبعد ستة أيام من سقوط القدس بدأت الحفريات تحت المسجد الأقصى بحجة البحث عن أسس الهيكل المزعوم.
ورغم ما يقال ويكتب، فإن الحرب الدينية حول المسجد الأقصى أمر لا جدال حوله، وأن الادعاء بأن حائط المبكى يؤكد أحقية اليهود في بناء هيكلهم مجرد خرافة يريدون زرعها من خلال الدعوات ليهودية “إسرائيل”، ويتخذون من هذا الحائط الأصم إحدى الوسائل لذلك ولا غير.