حضرا في موعدهما، لكنهما وجدا بالمكتب زوجين علا صوتهما على بعض، محاولين الدخول إليَّ للاحتكام في أمر ما، فاستأذنت منهما على أن أنهي هذا الشجار ثم نتابع جلساتنا التأهيلية لهما لحياتهما الأسرية المقبلة كخطيبين وشريكين في الحياة، وبعد وقت وجيز خرج الزوجان وهما مبتسمان، والرضا يملأ نفوسهما.
تعجبا ونظرا إليَّ بدهشة، ثم قالت: ما الذي جرى؟
وعلى ماذا انتهوا؟ قالها محدقاً رافعاً حاجبيه متعجباً.
قلت: هل اعتدنا أن كل شجار ينتهي بطلاق أو خصام وغضب عارم؟
قال: لا.. لكن..
قاطعته: من شاهدهما لا يقل: إنهما حتى سيبتسمان لبعضهما بعد ذلك إذا تقابلا.
ضحكتُ قائلة: ألهذا الحد؟!
قالت: نعم؛ لأن الوقت الذي قضيته معهما قصير مقارنة بحجم مشاعر الغضب لدى كل منهما تجاه الآخر، وما كانا عليه، فماذا فعلت معهما؟ وماذا قلت لهما؟
القناعات الشخصية
قلت: هذه إشكاليتنا، إننا نبني قناعاتنا على أحداث فردية أو تجربة شخصية أو قناعات الآخرين.
قال: وما الصحيح إذاً؟
قلت: قناعاتنا تبنى على أسس وليست تجارب متغيرة بل ومتحيرة بين هذا وذاك.
قالت: حسناً.. احكي لنا ما الذي حدث لهما؟ وما الذي جعل حالهما تتبدل بهذا الشكل؟
قلت: بل المهم أننا حينما نفهم طريقة تفكير من أمامنا سنرتاح كثيراً، ويقلل من حجم الخلاف بيننا، وهذا هو مربط الفرس؛ لأنه يبرئ نوايانا من قصد الإهانة أو التجاهل للطرف الآخر.
قال: وهل أنا مطالب أن أعرف طريقة تفكير الآخرين؟ ألا يكفيني ما يقال أمامي وما أسمع منه أو ما يفعله؟
قالت: نعم يا دكتورة، هذا كثير علينا أن نبحث في عقل من أمامنا عامة وشريك الحياة خاصة عن كيف يتصرف وكيف يفكر! فهذا كثير.. هذا كثير.
قلت: الأمر ليس بالصعوبة تلك أبداً.. ما عليك إلا أن تفهم كيف تتعامل معهم من خلال مدخل كل منهم في التفكير.
قال: ولماذا لا يسعى الآخرون إليَّ ويفهمون ماذا أريد وماذا أقول؟
قلت: ما التعنت هذا منكما في فهم الآخر؟! الأمر أبسط من ذلك بكثير، فمن الطبيعي أن يتعامل معي الطرف الآخر وفق طريقة تفكيري، كما أسعى أنا لإفهامه ما أريد أنا بطريقة تفكيره هو.
طرق التفكير
قالت: وما هي طرق تفكيرنا؟
قلت: قد يغلب أحدنا المنطق العقلي في اتخاذ القرار والتفكير، وبناء عليه التصرف والسلوك؟
قال: والآخر؟
قلت: يغلب الجانب العاطفي.
قالت: لكل منهما منطقه، فما المشكلة إذن؟
قلت: حينما تنظرين لأمر ما بنظرة عاطفية حانية سيكون قرارك مختلفاً عن صاحب النظرة العقلانية المنطقية التي يحيد فيها القلب، وكل منهما يقف في صف بل ويدافع عن وجهة نظره تلك، وكم من مشكلات أتت من جراء ذلك.
المنطق العاطفي والعقلاني
قال: ممكن توضيح أكثر؟
قلت: يعني؛ هذان الزوجان مختلفان في أمر تربية الأبناء مثلاً بين الشدة واللين، وما يجب أن يكون عليه الأبناء من أخلاق وسلوك، وبين ما هو كائن موجود، وبين عقاب تخلو منه الرحمة أحياناً وبين اللاعقاب نهائياً، هي اختلافات في طريقة التفكير لكل منا في الأمور.
قالت: أليس هناك وسط؟
قلت: أكيد هناك أشخاص كثيرون يتراوحون بين هذا وذاك، حتى المنطق العقلاني على درجات وهكذا العاطفي.
لكن المشكلة تكمن في تصادم الزوجة والزوج المختلفين وعدم استيعاب كل طرف للآخر في منطق التفكير هذا.
وأيضاً أحياناً المشكلات من الزوجين المتفقين في منطق التفكير، ولكنهما مختلفان مع الأبناء.
قالت: فعلاً أذكر إحدى صديقاتي في الثانوية كانت دائماً تشكو أمها أنها لا تهتم بها وتفضل أخواتها عليها، وتتكلم بمنطق المشاعر المرفهة جداً، وكانت من بين زميلاتنا من يسخر من كلامها هذا وتعليقاتها في بعض المواقف وغضبها على أتفه الأسباب.
قلت: هذا فعلاً نموذج لاختلاف منطقنا في التفكير.
التعامل مع منطق الآخرين
قال: وما العمل إذا كان كل منا لن يصبر على الآخر أو يفهم منطقه وطريقته؟
قلت: كل منا يعيش بمبدأ التجربة والخطأ حتى في الصداقات، فإن ارتاح الطرفان لأسلوب كل منهما أكملا الطريق وإلا افترقا؛ لذا وجود مشكلات أو اختلافات أمر وارد جداً وطبيعي في بداية أي علاقة مهما كانت حتى يصلوا لمنطقة وسط بينهما بصبر وهدوء، لكن الآن الشباب والفتيات كل يجري لنفسه ويريد من الآخر أن يستوعبه دون سعيه لتحمل واستيعاب الآخرين.
قالت وهي تنظر له: وكيف أصبر على شريكي إذا كان منطقنا مختلفاً؟
قلت: المفروض أنك بعد علمك بالاختلاف هذا تحددين منطق الآخرين؛ وبالتالي تتوقعين منهم الخيارات التي تميل لمنطقهم، وبالتالي لن تصدمي أو تتصادمي مع سيقولونه بداية، ثم نعطي الأحقية للطرف الآخر أن يقول ما لديه لعل الأصح والصواب في رأيهم ومنطقهم.
وفي النهاية نخلط المنطقين لنخرج بالأصوب والأحكم، فهل الموقف يحتاج إلى شدة مثلاً أو لين أو وعد أو وعيد أو إثابة أو عقاب.. وهكذا ندرب أنفسنا على سماع الآخر، وسيمنحك هذا الفرصة لمراجعة منطقك؛ وبالتالي الوصول للصواب.
قال مازحاً: والأصوب الآن أن تقبلي عزومتنا على الغداء بعد كل هذا الجهد معنا.
قالت: فعلاً.. بجميع أنواع المنطق حان وقت الغداء.
قلت ضاحكة: شكراً لكما، لعلها تكون في منزلكما بعد الزواج إن شاء الله تعالى.