ما أعظم أن يتحلى الداعي بدعوته، وتتحلى به أسرته، ويجعل من أبنائه خلفاً صالحاً له في سيرته، ونقطة بيضاء في جبينه، ولامعة في الدعوة الساطعة.
وما أحسن التضرع إلى الله عز وجل بهذا الدعاء القرآني {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}.
ولا يخفى أن من أهم أمنيات الداعية أن يجد بيته منارة دعوية، يسطع في سمائها الزوجة والأبناء، لكنه يجد نفسه بين متطلبات الأسرة والتزامات الدعوة، وهنا ربما تضيع بعض المفاهيم والأساسيات الضرورية.
ويصبح الأبناء هم الضحية؛ حيث يكونون من أكبر ضحايا التضخم الاقتصادي وانشغال الأب والأم في العمل والدعوة.
أيهما أولى؟
ومع تزايد ضرورة الدعوة في ظل العولمة التي تحاول طمث الهوية الإسلامية وتضيق الخناق الاقتصادي على معظم الدول العربية من انتشار للمشكلات الاقتصادية؛ نجد الأسرة عند كثير من الدعاة في مؤخرة اهتمامهم.
فالأب مشغول بما يكفي أو يسد أبسط الاحتياجات الضرورية من ملبس ومأكل وتعليم وعلاج، وبعد هذا العناء المرير تأتي إيجابية المسلم وضميره اليقظ كي يحرك ما تبقى من جهد داخله، ويشحذ همته من أجل الخروج للدعوة والعمل الاجتماعي الخيري، وينتهي اليوم على هذه الشاكلة؛ فأين نصيب الأولاد من حياة الأب؟
فالإسلام لا يقلل من أهمية البحث عن الرزق والعمل، وفي الوقت نفسه يشجع على الاستمرار في العمل الدعوي لما له من بركات وحسنات وبصمات لامعة؛ بل والإبداع فيه، وإفساح مزيد من الوقت والمال للدعوة إلى الله تعالى، لكن مع هذا على الدعاة ألا ينسوا أماناتهم ورعيتهم؛ فالأب راعٍ وهو مسؤول عن رعيته ولا تقتصر مسؤوليته على جمع المال، وسد الجوع، لكن عليه المشاركة الفعالة في تربية الأولاد، وإسعاد الزوجة، وزيارة الأهل، وصلة الرحم.
فإذا كانت الأسرة والدعوة على الدرجة نفسها من الأهمية فليكن ذكاء الداعية في تنفيذ حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه: “أعطِ كل ذي حق حقه”، وأن يعي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته..”.
وعلى الرغم أن الإسلام حرص على توصية الأبناء بالآباء فهذا لا يعني سقوط وغياب حقوق الأولاد على الآباء.
ومن حقوق الأبناء على الآباء:
– الأمر بالمعروف {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا}، وهو أمر متواصل خلال اليوم حسب أوقات الصلاة، وعلى الداعية أن يمتثل دائماً قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}.
– تغيير المنكر بشتى الوسائل الممكنة؛ باليد واللسان والحوار الذي من شأنه بناء أسرة مرنة تستطيع مواجهة الصعاب؛ فإذا كان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قد أمر بتغيير المنكر باليد، ثم باللسان لمن عجز، ثم القلب لمن عجز عن الاثنين؛ فإن ذلك الأمر يكون في حق رب الأسرة الذي بيده مقاليد أمورها ويسهل عليه القيام بهذا الأمر.
– المراقبة والمتابعة، خاصة للأولاد في سن المراهقة الذين يحتاجون للمراقبة والتوجيه والتقويم والاستيعاب، وليكن لهم العبرة في نبي الله زكريا، حينما حمل على عاتقه كفالة مريم، وكانت كفالتها شاملة؛ حيث كان يتابعها، وقد ذكر القرآن قوله لها: {يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا}، وكان السؤال حينما لاحظ ما هو غريب، وهذا يدل على المتابعة الدقيقة ثم المحاسبة اللطيفة.
جناحا الأسرة
الأسرة طائر له جناحان؛ أحدهما الأب والآخر الأم، ولا تخفى حاجة الأبناء إلى الاثنين معاً ليخرج للمجتمع أفراد أسوياء متوازنون غير متأثرين بغياب أحد الجناحين، وبذلك يشترك الأب والأم كلاهما في هذه النبتة الطيبة التي تترعرع في ظلهما وتسقى من نبع حنانهما حتى يستحقا الاثنان دعاء الأبناء: {وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}.
والأسرة التي فقدت أحد جناحيها تخرج نباتاً غير سوي؛ فكيف تواجه هذه الأسرة الرياح العاتية الشرقية والغربية بجناح واحد؟!
ولا يقتصر فقدان هذا الجناح بموته أو الطلاق؛ ففي بعض الأحيان نجد الأب معتمداً اعتماداً كلياً على الأم في التربية الشاملة للأولاد، وهذا ما يقع فيه بعض الدعاة بحجة انشغالهم بالدعوة، وربما يكون بعض هؤلاء الأمهات فاقدات للأهلية في التربية؛ حيث أصبحت أماً دون أي ثقافة تربوية؛ بل وربما تكون صاحبة علل دينية من كذب وسوء خلق أو ما شابه ذلك؛ فهن بذلك يمثلن ثغرة كبيرة في بيت الداعية عليه أن يسعى لسدها.
فهذه الأسرة تكون في أمسِّ الحاجة إلى الأب الداعية الذي يحمل من الصفات والقدرات التي تجعله مع استعانته بالله قادراً على تغيير مسار أسرته في مهب الريح، ومن المعروف في الدعوة إلى الله قاعدة “أصلح نفسك وادعُ غيرك”، ولتكن الأسرة من واجبات إصلاح النفس ودعوة الغير معاً.
نتائج الانشغال عن الأولاد:
– الجفاء العاطفي: البعيد عن العين بعيد عن القلب كما يقولون؛ فكيف بطفل لا يرى والده إلا مرات معدودة في الأسبوع بل وربما في الشهر؟!
ربما يكون هذا الأب يكدح ويتعب ويصل الليل بالنهار عملاً ودعوة وما إلى ذلك، لكن كيف يشعر الطفل بهذا؟ فالفاكهة والخيرات التي يملأ بها الأب البيت لا تغني عن تواجده وقربه من أولاده؛ فهم يحتاجون إلى الإشباع العاطفي كما يحتاجون إلى الإشباع البدني.
– خلل ونقص في خبرات الأولاد: الأولاد نتاج الأسرة التي تتجلى فيها صفات الأب والأم وتربيتهما، وهناك اختلاف بين الرجل والمرأة؛ فقد أعطى الله لكل منهما ما يجود به على أسرته ومجتمعه؛ فما تعطيه الأم لا يغني عما يعطيه الأب.
– الانحراف: {أَفَمَن يَّمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَّمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} فكيف تسير الأسرة على طريق مستقيم دون أن يرسم الأب والأم معاً هذا الطريق لأبنائهما، محاولين عند نقطة الانحراف أن يوجها البوصلة، ويعيدا التوجيه، فالانحراف له مساوئ وآلام لا تتمناها أي أسرة، لكن التمني وحده لا يجدي هنا؛ فلا بد من المتابعة والمراقبة والمعايشة.
– الفشل في الحياة: النجاح في الدنيا والنجاة في الآخرة هو المطلب الرئيس لكل أب وأم لهما ولأبنائهما، ويعد نجاح وتوفيق الأولاد في حياتهم من أبرز علامات نجاح الأسرة، ولعل من أبرز النتائج السلبية لغياب الداعية عن بيته هو فشل أبنائه؛ فمن يصحح المسار؟ ومن يرغب ويرهب في الحياة؟
ولا يكون الفشل في الحياة العملية فقط؛ بل يتعدى إلى فشل في الحياة النفسية؛ حيث يشب الأبناء ناقمين على الدعوة لأنها سبب في بعد أبيهم عنهم، وإذا استطاع الداعية أن يصلح بيته أصبح مدرسة دعوية يعلم فيها الصغار قبل الكبار.
– الإساءة للدعوة: نظراً لأهمية الأسرة وتاريخها في نجاح الدعوة جعل الله الأنبياء من أفضل الأسر واصطفاهم على العالمين (إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل عمران على العالمين)، فالدعوة اصطفاء، والنجاح فيها توفيق من الله تعالى.
والداعية غير المهتم بأسرته يكون سبباً في الإساءة للدعوة وفتح ثغرات لمن يريد محاربة الدعوة، قائلاً: “هكذا يفعل الدعاة بأسرهم وهكذا يكون أبناؤهم”؛ فيكون هذا سبباً في عدم التصديق أو وصمة عار في جبين الدعوة.
اقتراحات عملية:
– احرص على أن يكون لك زاد إيماني داخل الأسرة بمعاونة الزوجة والأبناء.
– استخدم التليفون أو “الواتس أب” أو غيرها من وسائل التواصل المتوافرة الآن مرة في اليوم على الأقل وأنت في العمل واطمئن على أسرتك، خاصة وقت عودة الأولاد من مدارسهم.
– ادخل البيت بهدايا ولو بسيطة للزوجة والأولاد اقتداء بالرسول الله صلى الله عليه وسلم: “تهادوا تحابوا”.
– احرص على العودة إلى البيت قبل موعد نوم الأبناء بساعة على الأقل.
– احرص على الاجتماع على وجبة طعام مرة واحدة على الأقل في اليوم.
– وفِّر لأبنائك وسائل ترفيهية وتعليمية راقية.
– اعهد بأبنائك لمربٍّ ومعلم للقرآن يشاركك التربية.
اعرف حالك مع أبنائك:
إذا أردت أن تقيم علاقتك ببيتك؛ فأرجو أن تعرض نفسك بكل صراحة وشفافية على المظاهر التالية.. ماذا تفعل منها؟ وماذا تقصر فيه؟ وماذا تفعله بقدر معين؟
1- أحرص على اختيار الاسم الطيب لأولادي.
2- أدعو الله أن تكون ذريتي صالحة.
3- أستيقظ مبكراً لأودع أولادي قبل ذهابهم للمدرسة.
4- أتناول وجبة الإفطار مع أولادي.
5- أذكر أولادي بأهمية العلم والتفوق.
6- أطمئن على أولادي وقت عودتهم من المدرسة.
7- أعود إلى البيت قبل نومهم لأطمئن عليهم.
8- أخصص وقتاً للترفيه والترويح عن النفس مع أسرتي.
9- أصطحب أولادي لا سيما الذكور منهم للصلاة في المسجد.
10- أتابع درجات أولادي ومستواهم الدراسي.
11- أستخدم أسلوب الحوار والنقاش الهادئ معهم.
12- أشارك أولادي بعض هواياتهم مرة أسبوعياً.
13- أخصص يوماً في الأسبوع لأولادي وأسرتي.
14- أحرص على تنظيم حلقة تثقيفية أسرية مرة أسبوعياً.
15- أتابعهم في حفظ القرآن وتلاوته.
16- أتحسس صحبتهم وأحوال من يصاحبون.
17- أستشعر معنى امتداد حياتي بأبنائي.
18- أستشعر معنى دعاء أبنائي لي في حياتي وبعد مماتي.
19- أحرص على أن أكون قدوة صالحة لأسرتي.
20- أحرص على دعوة غيري إلى الاهتمام بعائلاتهم.