أطفالاً كنا نصنع بيوتاً وحدائق من لا شيء، نبنيها في الهواء والواقع الافتراضي، ثم نحاكيها في الواقع المعاش.
أطفالاً شاهدنا الصور أول مرة في مقرر دراسي.. وقبل أن تتسع الفرحة التقت الإرادة المدرسية والإرادة المنزلية على طمس الصور؛ لإفساح المجال لدخول الملائكة..
أطفالاً نشعر بقرب الملائكة حين ننام، وحين نمرض، وحين نخاف، وحين نفتقد الكتف التي تسندنا.. فلا يمكن التفريط بقربها، ولذا كنا نتحرك بحماس!
قصص ما قبل النوم؛ قصص الجنيات والعوالم المسحورة، والمغارات والحيوانات المسكونة بالجن والعسبان الطائرة (جمع عسيب)؛ وحدها داعبت خيال طفلٍ شبه قروي..
الثلاثة الأولاد صاروا بقدرة قادر أساتذةً وجعلوا من خلفية الباب الخشبي سبورة، واستخدموا بقايا طباشير مختلسٍ من المدرسة، وصنعوا أسماء وهمية لطلاب يُدرِّسونهم؛ هذا مؤدب، وهذا غبي، وهذا مشاغب، وهذا تم طرده..!
لا زالوا إلى اليوم حين يجتمعون يتذاكرون تلاميذهم الوهميين، وانطباعاتهم السلبية والإيجابية عنهم!
ولعلهم نسوا أشياء كثيرة ومهمة حدثت فعلاً أمامهم..
لم يحدث أن قرأت كتاباً في تنشيط الخيال أو حضرت دورة.
في الثقافة الشرعية تزخر النصوص القرآنية بمفردات خاصة كأنها مصممة لتحفيز الخيال، القصص وأحداث القيامة والوعود المستقبلية (يوجد مقال خاص عن الخيال القرآني).
أكثر ما يحرك الخشوع في قلبي وقليلاً ما أشعر بخشوع.. تصور الحدث وكأنه يقع أمامي وكأنني جزء منه.. يحدث هذا مع قصص السابقين ومع أحداث يوم الدين.
وسيلة آدم لمعرفة الأسماء هي التخيُّل وبغيرها لابد من إحضار الأشياء لمعرفتها؛ الجبل، والبحر، والكتاب، والشجرة، وووو.. أسماء نسمعها فنتخيَّل صورتها ونعرف المقصود.
الخيال أهم من المعرفة ومن التعليم، وهو أساس التعليم والمعرفة.
الشيطان خاطب آدم وحواء بمفردات خيالية لم يروها.
الخُلْد..
الموت..
المُلْك..
الوسوسة خيال سلبي، لم يكتف إبليس بمجرد إلقاء الفكرة، بل كررها وأكدها وحلف عليها حتى استقرت في قلبيهما: “فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ” (22:الأعراف).
في قصة الشجرة والأكلة المشتركة أتذكر الخيال المتعلق بصلة الذكر والأنثى، التخيل يلهب المشاعر ويلح على الأحاسيس، ويصنع صورة أجمل من الواقع، ويلغي الجوانب المكروهة والمزعجة والمؤذية والمخاوف والمخاطر والآلام بشكل مؤقت.. ولذا يقع الإنسان في الفخ ثم يصحو.. الخيال هنا ساحرٌ مبدع ينقل لك الأشياء البعيدة ويصورها ويلونها حتى تبدو أحسن من أحسن منها!
في التدخين تكون الولاعات الذهبية والطفايات والسجاير والنكهات أكثر إبهاجاً، زد عليها الذكريات والرفقاء والأجواء؛ التي يستدعيها الخيال من مخزن الذاكرة مجردةً من مصاحباتها السلبية..
وغالباً ما تكون مقدمات الشيء الجميل أحسن منه.
كما أن مخاوف الشيء المحذور أعظم منه وأكثر إثارة للقلق، يقول المتنبي:
كُلُّ ما لَم يَكُن مِنَ الصَعبِ في الأَنـ … ـفُسِ سَهلٌ فيها إِذا هُوَ كانا!
الخيال السلبي هو إلحاح أفكار مخيفة أو مقلقة مما يؤثر في الإدراك؛ سواء تعلق الأمر بالطهارة والعبادة، أو بالمعاملة، أو بالإحساس والخوف من شيء ما..
الخوف من الإخفاق والفشل هو إلحاح صور المعوقات حتى تصير هاجساً يمنع التقدير والتفكير والمقارنة المعتدلة..
حين تُضعف الإضاءةَ عن الاحتمالات السلبية؛ تغافلاً وإعراضاً وتجنباً للخوض فيها والحديث عنها.. تخمل وتتراجع ثم تذبل أو تموت.
وحين تسلط عليها ضوء التخيُّل والتصور والتفكير تصبح هاجساً يلح ويتزايد..
خيال الطيران لم يتأخر للقرن السادس الميلادي، وما كان فكرة في الصين، أو عند عباس بن فرناس.
في التنزيل: “وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا” (78:النحل).
نفي العلم عن المولود؛ دليل على الاستعداد والقابلية للتعليم، ولذا عقَّب بقوله: “وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ” (78:النحل).
أدوات المعرفة: النظر والسمع والعقل (الفؤاد)، ومن ذلك ملكات التخيُّل والتفكير والتركيب والإبداع..
وبعدها مباشرة: “أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاء“؟ (79:النحل).
ومع الطير الذي يشترك البشر في رؤيته ومحاكاته، كان آدم يرى الملائكة تطير ذات أجنحة مثنى وثلاث ورباع وما شاء الله..
التكيُّف مع الأرض لم ينس آدم الجنة فهي منزله الأول وطموحه الأخير، وحلم العودة إليها يراوده ويلح عليه كلما واجه محنة أو لاقى صعوبة، دون أن يصرفه عن التكيُّف مع الأرض والرقي بها، ومحاكاة الحلم الجميل الذي عاشه.
كان دأبه الإصلاح والبناء وعمارة الأرض وتحسينها وتجميلها، ويقال أنه ما قطع شجرة قط، ولذا نهى الله ذريته عن إفساد ما أصلح: “وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا” (56:الأعراف).
فيما يتعلق بالغيب المحجوب عن آدم كان مؤمناً به دون أن يسمح لخياله بتصويره، فالله لا تدركه الأبصار ولا يلحقه وهم ولا خيال، وكل ما خطر ببالك فالله ليس كذلك، وحين يرفض أحدنا رواية غيبية فهو تصورها وتخيلها أولاً ثم استبعدها ثانياً، وكان جديراً به أن ينفي الصورة التي انقدحت في عقله، ورسمت ما لا يمكن رسمه، وأخضعت الغيب لمنطق الطبيعة والمادة وفيزياء الكون المشهود..
كما زود آدم بملكة الخيال والتصور، زود بملكة التجريد، فالصدق والحب والمعارف والمعاني أشياء لا يبحث العقل عن صورها ولا يتخيلها.
ينقدح السؤال، ويعجز الخيال، ويقول الكليم: “رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ” (143:الأعراف)، فيأتيه الرد:”لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي..” (143:الأعراف).
التركيب البشري الحالي مصمم لعمارة الكون وكشف نواميسه وسننه، والعقل مسلّط على ما حوله مما خلق له، ومالم يؤمن بالآخرة فسيضرب في التّيه، ويسخر من حقائق الغيب وقطعيات الوحي دون أن يملك دليل النفي: “بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ” (8) سورة سبأ.