رأيته في الحلم ينتزعني من حضن أمي، كنت في الثامنة ولكني رأيت حجمي ضئيلاً للغاية، يشبه حجم قطة صغيرة، ثم رأيتني في الوحدة الصحية بالقرية الكبيرة المجاورة، كنا نسميها المستشفى وأحيانا “المجانة”؛ أي التي تعالج المرضى مجاناً، كانت معي إحدى قريباتي تمسك بيدي، وباليد الأخرى ولداً من حارتنا غاب عني شكله، واسمه، وقفنا في باحة الوحدة وسط الزحام، رجال ونساء وأطفال ورضع، غابة من الصياح والصراخ والأصوات العالية كأنه يوم الحشر،
قلت لقريبتي:
– كيف سنصل إلى شباك صرف الدواء؟
ضغطت يدي، وقالت:
– اصبر، سنصل إن شاء الله!
أخذنا نناضل الناس ونخترق الزحام حتى وصلنا إلى الشباك الزجاجي الذي تحميه شبكة حديدية قوية، وبها فتحة مستطيلة في الأسفل يوزع منها الدواء، كانت الأيدي الممدودة نحو الشباك كثيرة جداً، لا أعرف كيف استطعنا الحصول على زجاجة الدواء الأسود؟ هل كانوا يسمونه زرنيخ مع الحديد؟ ومعها قطعة من المرهم، ثم كوباً به شربة زيت الخروع لطرد ديدان الإنكلستوما!
في الشارع الواسع المترب جذبتنا لمة خلق كثيرين أمام قصر الباشا القديم الذي علا أسواره الخارجية نشع المياه، كان هناك جهاز راديو ضخم، يذيع أخبار الملك السابق والقائد المحبوب محمد نجيب، ويتحدث عن الضباط الأحرار والعهد الذهب القادم.
قلت لقريبتي:
– إني جائع يا خالة.. جائع يا خالة..
سحبتني والولد الآخر إلى بيت فلاحي بابه واسع وجدرانه من الطوب اللبن، ومدخله يمنح الجالس فيه شيئاً من الطراوة، جلسنا أمامه، وجاءت ربة الدار ببعض الأرغفة البيتي وقطعة من الجبن القديم وقطعا من اللفت المخلل وقُلّة من الماء البارد، أكلنا وشربنا وشبعنا ودعونا للمرأة صاحبة الدار.
قلت للخالة:
أنا حاف والأرض ساخنة ولا أستطيع السير في الصهد. قالت:
– امش بجانب الحائط، هناك جانب طريّ.
قلت لها: تعبت، استدارت وقالت: سأنادي على صاحب الحمار القادم هناك، وأشارت بيدها لتركب معه.
فجأة وجدتني في مطار فخم يشبه مطار القاهرة، كنت أرتدي حلة فاخرة دون رباط عنق، كان معي بعض المرافقين، وتقدمنا إلى الجوازات بوثائق السفر لنختمها.
قال الضابط المختص:
– آسف يا معالي الوزير، لن تستطيع السفر!
بوغتُّ، وقلت له: لماذا يا بني؟ إني ذاهب لأوقع اتفاقية بين دولتين!
قال: يؤسفني أن جواز سفرك ملغي، فقد مضت عليه سبعون سنة!
نظرت حولي لم أجد المرافقين، رأيت عدسات التلفزة والمصورين وميكرفوناتهم تتجه إليّ، وتسألني عن تشكيل الحكومة الجديدة، أحسست بشيء يخنقني ويكتم على أنفاسي ويضغط على صدري وأجفاني.
جاء أذان الفجر لينقذني من العدسات والميكروفونات وهجمات الناس، تشهدت واستغفرت وقلت: اللهم اجعله خيراً!
(2)
رأيته في الحلم جميلاً ومبتسماً، وجهه يشع بالضياء والنضارة، كان شاباً وسيما تعلو رأسه عمامة شامخة وفوق عينيه نظارة مذهبة لعلها للقراءة، اندفعت إليه مرحباً ومهللاً، قال لي: لماذا لم توافني بأعداد الاعتصام؟ لقد اشتريت المجلة من الباعة الذين حول إدارة الأزهر، حصلت على عشرين نسخة لأوزعها على الضيوف الذين يريدون معرفة رأيي!
قلت له:
– إن الحاج حسن سيوافيك بخمسين نسخة أخرى.
قال وهو يبدي فرحه بنشر موضوعه:
– اشكره وقل له: إن نشر المقال بعد أن رفضت صحف الحكومة نشره يؤكد أن مصر بها علماء دين لا يركعون إلا لله، لقد رفضت ما أرادوا فرضه علينا مخالفا للشرع.
وتهيأت للثناء عليه، ولكني لم أجده، صحت بأعلى صوتي:
– يا مولانا، يا فضيلة الإمام، يا د. عبدالحليم، ولكن صوتي غاب في فلاة لا نهاية لها.
مضيت أبحث عنه وأنا أتلفت يميناً وشمالاً لم أجد أحداً، وصلت شاطئ النيل عند قريتنا، رأيته قادماً في مركب ذات شراع، كان يسير فوق الماء، ولكن وجهه مكفهر، مليء بالغضب وينطلق الشرر من عينيه:
– كيف تسمحون بمن يلغي خانة الدين في الشهادات المدرسية؟
حاولت الإجابة ولكن صوتي لم يخرج من حلقي:
– إنهم ينقضون الإسلام عروة، يطالبونكم بفصل الدين عن الدنيا، ويجعلونه مادة للتندر والسخرية وأنتم صامتون، ثم يطلبون أن تعيشوا جالية في بلدكم، على فكرة قرأت مقالك “الجالية الإسلامية في مصر” وكنت سعيداً به.
اختفي مرة أخرى، وكنت أطير من الفرح لأنه قرأ كلامي؟ حاولت أن أشكره وأحاوره، ولكني استيقظت لأجد الدنيا حولي صامتة ساكنة، والليل يرخي سدوله على العالمين.
(3)
في نومي جاءت خديجة، رأيت وجنتيها محمرتان في لون الطماطم، وضعت يدي على جبينها أحسست بنار الله الموقدة تلسع يدي، فتقطع قلبي، حملتها على الفور وأسرعت بها إلى المستوصف المجاور، كنت قوياً وفي ريعان الشباب، قالت:
– يا جدي، أين عصاك التي تمشي بها؟
قلت لها:
– لقد شفيت يا أمي.
قال طبيب له وجه أرنب وصوت قطة:
– الحرارة 40، ويلزم علاج عاجل.
كبرت خديجة ونحن في طريق العودة، كانت عصاتي في يد، وخديجة في اليد الأخرى، غنت: “يا كتكوت يا صغير.. مالك كدا متحي..”، وضحكت من الأعماق، قابلتني أمي التي لم أرها منذ ثلاثين عاماً فاتحة ذراعيها لحفيدتي، ورأيت مصعداً في عمارة يحملنا نحن الثلاثة إلى شقة طيبة الهواء، وجلست أمي على أحد الكراسي تقرأ سورة الفلق، وكانت خديجة تردد وراءها بصوت ألثغ: جميل.