يغفل كثيرون من متابعيّ حال مصر ما بعد الانقلاب عن أفلام سينمائية يتم تقديمها بعيداً عن أنظار الشرفاء، وفيها يتم التلاعب بكل قيمة، وإتمام تلاشي الشعور بقيمة الوعي والحرية، ويتراجع صُنّاع للسينما المعاصرة عن مستوى معين ارتضوه لتضمين أفكارهم، لتصل الأمور بهم إلى المباشرة الانقلابية المخزية.
فيلم “قدرات غير عادية” للمخرج والمؤلف داود عبدالسيد، واحد من هذه الأفلام التي تم تمريرها في عام 2014م، بخاصة على معسكر يحب لمصر ازدهار الوعي، تسرب الفيلم في هدوء شديد، لا يتناسب مع جلال المأمول، وعظم خيبة الواقع، وكم يقصر مخلصون في حق أنفسهم وبلادهم بعدم التعرض ونقد مثل هذه الأفلام التي لا تذكر إلا بأفلام “النكسة”؟ أو تلك الأفلام التي قدمتها السينما المصرية، عقب هزيمة عام 1967م، وكم يظلم المخلصون أنفسهم لما لا يكون لهم ولو مركز واحد لدراسة الأفلام الجديدة مصرياً وعربياً، على الأقل، مع قدرة على الرد المناسب في وقت ملائم بالنقد وإبداء جوانب الإبداع، إن وُجدتْ، والقصور، إن لم يكونوا قادرين على إنتاج سينمائي درامي من أي نوع يحفظ عليهم نزاهة وأهمية قضاياهم.
شارك داود عبدالسيد في بعض من الوجه المشرق من أفلام ما بعد هزيمة عام 1967م، كمساعد للمخرج يوسف شاهين، وكان ذلك عام 1969م، وهي الفترة التي يقول عنها: إنها كانت “كابوسية” في حياته، ومضت الأيام بالرجل حتى جاء عام 1991م ليقدم فيلم “الكيت كات” عن رواية “مالك الحزين” للراحل إبراهيم أصلان، وفي الفيلم بدا الجانب الهزلي واضحاً في تناول البيئة المصرية، وعدم الانتصار لمبدأ أو خلق، على العكس من رائعة الممثل العالمي آل باتشينو “عطر امرأة”، وقد نقل عبدالسيد من الفيلم مشاهد مع بعض “التزوير” من مثل قيادة محمود عبدالعزيز، الكفيف البصر في الفيلم، لدراجة بخارية، ولكن عبدالسيد نسي أن ينقل حرص “عطر امرأة” على الانتصار للقيم ووجوب احتفاظ المجتمع بها، على النقيض من نهاية فيلم “الكيت كات” إذ يفضح “مقرئ القرآن الكريم” للحي كله.
أما ثاني أفلام عبدالسيد التي نتوقف لديها فـ”أرض الأحلام” عام 1993م والذي قبلت بطولته الراحلة فاتن حمامة، فقد تمادى الرجل في “الفانتازيا” الإيجابية فنياً، وبالتالي تصوير واقع المجتمع، وساعده “فُتات الحرية” الذي كان يتركه المخلوع حسني مبارك في تصوير ضيق التحمل حتى لدى الطبقة المرفهة من واقع مصر، لكن عام 2000م حمل توقيع عبدالسيد على فيلم ذي مضمون كشف عن قلق أيديولوجي خفي لدى مخرجه وهو كاتبه أيضاً، فالفيلم الذي قام بالبطولة فيه: حمدي غيث، أحمد زكي، محمد أبو زهرة يعبر عن تيه الإنسان تجاه خيبة عدم يقينه من وجود إله يحكم الكون، ولولا أن علمانيي مصر كانوا يمنعون الدفاع عن مثل هذه الأعمال، وقصور الشرفاء والمخلصين في كشف الغطاء عنها لما مر الفيلم بسلام.
عام 2001م قدم عبدالسيد أكثر أفلامه ازدهاراً في تناول الحريات، رغم الفانتازيا المبالغ فيها وأشباهها في فيلم “مواطن ومخبر وحرامي” إذ قال نصاً في أحد أغاني الفيلم: إن الثلاثة تماهوا وتداخلوا، على نحو بارع، حتى أثمروا شخصاً واحداً.
أما آخر أفلام عبدالسيد، وأولها في ظل الانقلاب، فقد جاء غريب الأطوار، غير ثابت المضمون، دليل على بيع نخبة السينما لا السياسيين فقط للقضية، فالبطل خالد أبو النجا أو د. يحيي في الفيلم يبحث عن مواطن ذي قدرات غير عادية، وأستاذه في الماجستير يقول له في جملة دلالية: إن كل أجهزة الدولة المصرية مسخرة للبحث عن هذه القدرة، هكذا الدولة البوليسية التي أمعنت وتمعن في قتل ومطاردة أصحاب القدرات تبحث عن قدرة واحدة فريدة، ولعدم قدرة عبدالسيد على مواجهة واقع مصر بعد الانقلاب يهرب بطل الفيلم إلى حدود الإسكندرية المتطرفة، وهناك يقيم في فندق شعبي، في محاولة لاستنساخ “ميرمار” نجيب محفوظ، وهناك يجد الطفلة فريدة التي لا تتلقى تعليماً، وتستطيع التنبؤ بالمستقبل القريب وتحريك الأشياء بمجرد النظر إليها!
إلا أن عمر البنهاوي أو الجاسوس “الإسرائيلي” يفاجئ سياق الفيلم بالاستحواذ على الطفلة، وأمها حياة، ولا يجد المخرج شجاعة الاعتراف بأنه جاسوس للعدو تحديداً، مثلما وجد هذه الشجاعة في تصوير الملتحين، اليوم، على أنهم منتشرون في الشوارع، يعتدون على السيرك، الذي يبهج الصغار، ويمنعون بيع الخمور علناً، ويشككون في بنوّة صغارهم، في مفردات تدل على بعد عن الإطار السينمائي الفني بل الآدمي البشري، وتصوير للمختلف الأيديولوجي على أنه عدو مخرب، ومن فضول القول: إن عبدالسيد مسيحي.
يترك المخرج مفردات دالة على جاسوسية البنهاوي من “كعكة شعره” وتنبيه أحد الممثلين المباشر للمشاهد بأنه ليس ضابطاً، ولكنه يعلو الضباط في الفيلم، مع السيارات الدبلوماسية التي يتحرك بها، والمعاونون ذوو الشكل المريب، والسكن الخاص المحمي بالحرس، وبعد أن يتم استغلال الصغيرة وأمها في علاقات مخابراتية، وزواج حياة البطلة، الممثلة نجلاء بدر، وهي في الفيلم ترمز إلى مصر، كما كانت زهرة في ميرمار، أو الممثلة شادية، أو حتى آثار الحكيم بنفس الاسم في بطولة ليالي الحلمية للراحل أسامة أنور عكاشة، وهو ما يعززه قول الجاسوس ليحيي في أحد الجمل الدالة:
– “حياة” كانت حلماً في ذهني وذهنك.
وفي النهاية؛ يصفو ذهن البطل ليذهب إلى الفندق الشعبي متزوجاً من حبيبته بعد لفظها عدوه، وإبعاد الملتحين، وإن كان الخادم يقول في مشهد النهاية:
– ابعد يا ابن (…..) أمك واحدة.. وأبوك مائه.. مرة تأتي ملتحياً.. وأخرى مرتدياً بنطلوناً..!
في إشارة إلى التحديات التي تلاقيها مصر برأي المؤلف والمخرج والفيلم.
حمل العمل بصمة انهيار منظومة السينما الجادة فناً ومضموناً قبل مسيرة حياة المخرج والمؤلف، فلم يعبر عن التحديات الحقيقية التي تلاقيها مصر، ولا أحسبه يستطيع، وإنما جامل السلطة بلا حدود فجاملته بلا حساب لما سمحت له بتصوير المولد، ودخول البطل مسجد السيدة زينب وتجوله فيه بالحذاء، في وقت لا أحد فيه بداخله إلا فريق الفيلم، وحواره مع شيخ طريقة السيدة زينب الخيالي المدعي ليقول له: إن المولد عبارة عن خلق عالم فاضل يغطي على خيبات المصريين، وتفاهة واقعهم وآمالهم، في كناية واضحة الدلالة والسياق على الثورة، وأن الانغماس في الصوفية، والهروب من الواقع هو الحل.
الواقع البديل كان شغل داود عبدالسيد بعد انهيار سقف الحرية به تماماً، فكان مرة في الصوفية، تستهلك قرابة نصف الساعة من زمن الفيلم بلا مبرر درامي قوي أو محكم، مع مشاهد تعاطي الخمور المبالغ فيها، والجنس المفتعلة مع سيئ الكلمات لجذب الجمهور من الشباب الصغير.
إن الأمر لا يخص في النهاية فيلماً واحداً، فهناك أكثر، لكن يخص منظومة أخلاقية يعمل الانقلاب على انهيارها في مصر، مستخدماً جميع الأدوات المؤسسية التي وجدها فيها، ولم يتعب في سبيل الحصول عليها، ومنها السينما المصرية.. فليتنا ننتبه إلى الأمر في خضم التحديات التي نواجهها في حياة مصر والأمة!