من رحمة الله بخلقه أن ثَبَّت لهم في الأرض سننًا لا تتغيَّر ولا تتبدَّل؛ بهذه السنن تستقيم حياة الناس، وعليها يعتمد الخلق في حركاتهم وسكناتهم، ولو كان لكل زمان سُنَّة، أو لكل مكان سُنَّة تختلف عن غيرها لاضطربت حياة الناس، ولضاعت كل الخبرات السابقة.
لكن – بفضل الله – الخبرات السابقة لا تضيع؛ ما حدث معك بالأمس يتكرَّر اليوم، وما يحدث معك اليوم سيتكرَّر غدًا، وهكذا إلى يوم القيامة. ومن هنا جاءت أهمية دراسة التاريخ.. فالأحداث السابقة تتكرَّر دائمًا، وبصورة تكاد تكون متطابقة، فليس هناك جديد على الأرض؛ فإذا درسنا التاريخ وعرفنا أن حدثًا ما قد مرَّ قبل ذلك، وكانت فيه الظروف والملابسات نفسها التي تُواكب حدثًا نعيشه الآن؛ فإننا نستطيع أن نستنتج النتائج، فإن كان الحدث نصرًا مجيدًا سرنا على الطريق نفسه الذي سار فيه المنتصرون لنَصل إلى النتيجة نفسها، وإن كان الحدث هزيمة مخزية تجنَّبْنَا أخطاء السابقين فلا نصل إلى هزيمة كهزيمتهم.
دراسة التاريخ بهذه الطريقة تجعل التاريخ حيًّا ينبض.. أنت تقرأ لتتفاعل، لا لمجرَّد التسلية أو الدراسة الأكاديمية البحتة؛ دراسة التاريخ بهذه الصورة لها هدف واضح هو البحث عن «العِبرة».. وهو ما ذكره الله عزَّ وجل في كتابه عندما قال: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ} (يوسف:111).
ولهذا السبب جعل الله عزَّ وجل ثلث القرآن قصصًا؛ حتى يستقرئ المسلمون سنن الله عزَّ وجل في الأقوام السابقين، وليعلموا حتمًا أن هذه السنن ثابتة؛ فيستطيعوا توقُّع الشيء قبل حدوثه؛ ومن ثَمَّ الاستفادة منه، ولا يأتي هذا إلا بتفكُّر عميق في كل قصة، ودراستها من كل زاوية؛ ولهذا يقول الله عزَّ وجل: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (الأعراف:176).
فقصُّ القصة، أو رواية الرواية، لا يغني شيئًا إن لم يُتبَع بتفكر.. ودراسة التاريخ ليست دراسة تكميلية أو جانبية أو تطوعية، إنما هي ركن أساسي من أركان بناء الأمة القوية. هكذا علمنا الله عزَّ وجل في كتابه الحكيم، فهو يقص القصة، ويعرض فيها الحُجَّة التي تقنع العقل، ثم يعرض فيها الرقيقة التي تلمس القلب، وقد يعرض فيها أمرًا عقائديًّا، وقد يعرض فيها حكمـًا فقهيًّا، ثم هو يربط القديم بالحديث، والتاريخ بالواقع، والماضي بالحاضر.. فتشعر أن التاريخ حيٌّ ينبض، ولسانٌ ينطق.. وتكاد تجزم أنه لا يحدثنا عن رجال ماتوا، ولا عن بلاد طواها الزمان، إنما هو يحدثنا عن أحداثنا، وينبئنا بأنبائنا، ويخبرنا بأخبارنا. والتاريخ – من هذا المنظور – ثروة مدفونة تحتاج إلى بذل مجهود، وتفريغ وقت، وحشد طاقات، وتحتاج إلى عقول وقلوب وجوارح. والتاريخ الإسلامي هو – بلا شك – أنقى وأزهى وأعظم وأدق تاريخ عرفته البشرية، وسعدت الدنيا بتدوينه.
فالتاريخ الإسلامي هو تاريخ أمة شاهدة، وأمة خاتمة، وأمة صالحة، وأمة تقية نقية، وهو تاريخ أمة آمرة بالمعروف، ناهية عن المنكر، داعية إلى كل خير، محاربة لكل شر.
التاريخ الإسلامي هو تاريخ رجال ما عرف التاريخ أمثالهم قط، فهم رجال فقهوا دينهم ودنياهم، فأداروا الدنيا بحكمة، وعيونهم على الآخرة.. فتحققت المعادلة الصعبة العجيبة: عـّزٌ في الدنيا، وعزٌّ في الآخرة، ومجد في الدنيا، ومجد في الآخرة، ومُلك في الدنيا، ومُلك في الآخرة. التاريخ الإسلامي هو تاريخ حضارة جمعت كل مجالات الحياة في منظومة رائعة راقية، جمعت الأخلاق والسياسة والاجتماع والاقتصاد والمعمار والقضاء والترفيه والقوة والإعداد والذكاء والتدبير.. جمعت كل ذلك جنبًا إلى جنب مع سلامة العقيدة، وصحة العبادة، وصدق التوجه، ونبل الغاية.. وصدق الله تعالى إذ يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} (المائدة:3).
لقد واجه المسلمون في تاريخهم كل أشكال المآزق والمحن والمشكلات، كما واجهوا كثيرًا من الأعداء، وقد أثمر ذلك تجارب ضخمة تضم في أثنائها ما واجهته البشرية على مدار تاريخها الطويل. وقد قامت الحضارة الإسلامية في بقاع مختلفة من العالم: في الشرق والغرب، والشمال والجنوب، وكان تنوع الأصول العرقية للمسلمين دافعًا لتنوع الثقافات، ومع ذلك فإنَّ الدين الإسلامي قد صهر الجميع في بوتقة واحدة يشعر الجميع فيها بشعور واحد؛ فيفرحون لنفس الأسباب، ويحزنون للأسباب ذاتها؛ فهي إذن أمة واحدة منحت البشرية رصيدًا ضخمًا من التجارب الإنسانية.
وهنا وقفة وسؤال:
هذه الثروة الثمينة، وهذا الكنز العظيم.. ثروة التاريخ الإسلامي الطويل.. مَن مِن البشر في زماننا أَمِنَّاه عليها؟! مَن مِن البشر أعطيناه مفاتيحها لينقب فيها ويستخرج جواهرها؟! مَن مِن البشر أسلمناه أُذُننا وعقولنا وأفئدتنا ليلقي عليها ما استنبط من أحكام وما عقله من أحداث؟! واعجبًا لأمتنا! لقد أعطت ذلك لحفنة من الأشرار.. طائفة من المستشرقين الأجانب، وطائفة من المفتونين بهم من أبناء المسلمين! لقد تسلم هؤلاء كنز التاريخ، لينهبوا أجمل ما فيه، وليغيروا ويبدلوا ويزوروا! حتى خرج التاريخ إلينا مسخًا مشوهًا عجيبًا.. وقُطعت بذلك حلقة المجد، وانفصل المسلمون في حاضرهم عن ماضيهم، كما تنفصل الروح عن الجسد تمامًا بتمام.
فجأة انتبه الشباب فوجدوا بين أيديهم سجلًا حافلًا من الصراعات والمؤامرات والخيانات والسرقات.. صفحات سوداء تتلوها صفحات سُود.. واحتـار الشباب في تاريخهم، أيمسكونه على هونٍ، أم يدسونه في التراب؟! لذا كان من الواجب علينا أن نعيد قراءة التاريخ، ونستخرج الحق من ركامات الباطل، يقول جابر بن عبد الله رضي الله عنه: “إذا لعن آخر هذه الأمة أولها، فمن كان عنده علم فليظهره، فإن كاتم العلم يومئذٍ ككاتم ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم”.
إننا لا ننكر أن هذا التاريخ العظيم حوى أخطاءً، بعضها عظيم، وشمل عيوبًا بعضها خطر، وإنه لمن العبث أن ندعي أنه بياض بلا سواد، و نقاء بلا شوائب، لكن من الظلم البين أن نلصق أخطاء المسلمين بدين الإسلام.. فالإسلام دينٌ لا ثغرة فيه، ولا خطأ فيه، ولا عيب فيه.. فهو دين مُحكَم تام كامل، أنزله الذي يعلم السر وأخفى.. سبحانه هو الحكيم الخبير.. ومن خالف دين الإسلام من المسلمين فوباله على نفسه، وليس على الإسلام.. وكثيرًا ما يخالف الناس فتحدث هزات وسقطات، لكنها ما تلبث أن تتبع بقيام، وذلك إذا ثابوا إلى رشدهم، وعادوا إلى دينهم، وإلا استبدل القوي العزيز المجاهدين الصابرين الطاهرين بهم.
إن التاريخ الإسلامي ليس قصصًا للتسلية، وليس كذلك سبيلاً للفخر بأمجاد المسلمين الأوائل في أوقات قوتهم دون أن نتعلم منهم كيف أسسوا الدول والحضارات، وإنما هو – في حقيقته – دروس نتعلم منها كيف نقرأ الحاضر ونصنع المستقبل، ونعرف منها ماذا يريد أعداؤنا منَّا على الحقيقة، ونعرف لماذا علا أسلافنا في عهود قوتهم، ولماذا انتصر عليهم العدو في أوقات الضعف، ولماذا كان ذلك القوة، وكان الضعف من الأساس.
إن المتعمق في التاريخ يقرأ بيسر ما يحدث على وجه الأرض من أمور، ولا يُخدع بسهولة، مهما تفاقمت المؤامرات، ومهما تعددت وسائل المكر والمكيدة.. فهو وكأنه فعلاً يرى المستقبل! إنه يعرف بوضوح أين يضع قدمه، ويعرف كذلك كيف يقود نفسه ومجتمعه وأمته.. فالتاريخ كالشمس الساطعة، تنير الطريق لأجيال تتلوها أجيال، وقد يمتد أثره إلى يوم قيام الساعة.
المصدر: موقع “قصة الإسلام”.