صياغة الرواية تعتمد في بعض فصولها على تحول الضمير من الغائب الذي يسرد إلى ضمير المتكلم الذي هو بطل الرواية
تعبر الرواية عن عبقرية الإسلام وقدرته على تحريك الشخصية إلى الاتجاه نحو الخير والإنسانية بمعناها المتسع
ما بين الفاتحة والخاتمة في الرواية يطالع القارئ موجزاً شائقاً للسيرة النبوية في تتابع محكم يقرب قصة الإسلام وانتصاره
تظهر الرواية شخصياتها وقد حملت مع الأحداث المرتبطة بها حركة الدعوة وتطورها، وتكشف عن المواجهة بين الإسلام والمشركين، ومراحل الصراع وتطوره، والانتصارات والهزائم والدروس التي استوعبها كل فريق بالنسبة لمصيره ومستقبله.
ومن الطبيعي أن تكون الشخصية الأولى الأساسية في الرواية هي شخصية وحشي التي دارت حولها أحداث الرواية، ووحشي عبدٌ حبشيٌّ اشتراه سيده جبير بن مطعم بثمن بخس، وتربى على طاعة السيد وتنفيذ أوامره، ولكن داخله يضطرم برغبات سوداوية وأحقاد على السادة في مكة وعلى سيده المباشر، ويريد أن يتحرر، وينطلق بلا قيود، وهو يجيد القتال بالحربة، يسددها إلى الهدف فتخترق أحشاءه، وتقتله على الفور؛ لذا اختاره سيده جبير بن مطعم ليقوم بالمهمة الصعبة؛ وهي قتل حمزة بن عبدالمطلب، مقابل حريته، فيصادف العرض هوى في نفسه، وتؤكد هذا العرض هند بنت عتبة، زوج سيد قريش أبي سفيان بن حرب، التي جاءت إليه بنفسها لتحرضه على قتل حمزة، وتعده بما يجعله غنياً بين الأغنياء وسيداً بين السادة، وتسمعه ثناء على بطولته وإطراء لشخصيته؛ ما يجعله يشعر بأنه أصبح ذا قيمة كبرى بعد أن عاش ضائعاً تائهاً محتقراً، ومع ذلك فقد كان يدفن أحزانه في الخمر التي يعب منها دائماً لينسى شعوره بالعبودية والوحدة والاحتقار، وكثيراً ما تلعب الخمر برأسه فيأتي أفعالاً تجعل سادته أو من يرونه يسخرون منه أو يقيدونه ويدخلونه إلى البيت كي يبتعد عن المارة أو من حوله.
ولكنه يتمكن بالغدر والتخفي أن يسدد حربته إلى حمزة ويقتله، وبعد أن نزع حربته من أحشاء الشهيد أخذ يصيح ويقهقه فقد أصبح حراً، ولكنه ما زال يستشعر العبودية، ويسمع من يقول: أيها الأجير، فكأن حية سامة فتاكة قد لدغته! وتلفت حوله فلم يجد أحداً.
دائماً يشعر بالمطاردة طوال حياته يجري ويلهث، لم يغنم الراحة في حياته، ولم يذُق طعم السعادة حتى في اللحظة التي ظن أنه نال حريته.
ويؤرقه سؤال: كيف تغلب القلة «المسلمة» هذه الكثرة الهائلة؟ لم يجد إجابة عن سؤاله، ولكنه مصمم ألا يسلم نفسه لمحمد ورجاله، فقد صار مثل مولاه جبير بن مطعم تماماً، ولا يعنيه أمر «هبل» وغيره من آلهة مكة، ولو كان هناك شيء يعبد حقيقة لعبد ذاته.
كان تركيز الرواية على شخصية وحشي ينصبّ على إبراز ما يدور بداخله لبيان كيفية قدرة الإسلام على تحويل الشخصية الشريرة الحاقدة المدمنة إلى شخصية طيبة متسامحة مؤمنة، وهذا ما يعبر عن عبقرية الإسلام وقدرته على تحريك الشخصية إلى الاتجاه نحو الخير والإنسانية بمعناها المتسع والممتد الذي يشمل الناس جميعاً.
وقد أولت الرواية اهتمامها الجانب الداخلي لشخصية وحشي، دون إخلال بالحركة الخارجية للشخصية والأحداث التي تخص الدعوة والصراع المحتدم حولها، حيث يستطيع القارئ للرواية أن يتابع السيرة النبوية وأحداثها في أهم منعطفاتها وحوادثها المؤثرة.
وتبدو بقية شخصيات الرواية مساعدة للشخصية الأساسية فنياً؛ أعني شخصية وحشي التي تحركت على امتداد الرواية وحولها بقية الشخصيات التي جاءت لإضاءتها وتفسير الحوادث أو بيان دورها في صناعتها أو انعكاسها عليها، مع ملاحظة أن هذه الشخصيات قد تبدو في الواقع العملي للسيرة النبوية أكثر أهمية من وحشي الذي كان مجرد عبد يعمل لدى سيده؛ لأن الشخصية الروائية في وضعها الفني تختلف غالباً عن وضعها في الواقع التاريخي أو الواقع الحي.
ومن أبرز الشخصيات الروائية بعد شخصية وحشي، شخصية سيده؛ جبير بن مطعم الذي اشتراه منذ وقت بعيد في مطلع صباه، وقد اختاره ليقوم بمهمة الثأر لما جرى لقومه في «بدر»، بقتل حمزة بن عبدالمطلب، وهو الاختيار الذي صادف قبولاً لدى أعيان المشركين في مكة، وفي مقدمتهم هند بنت عتبة، زوج أبي سفيان بن حرب، وعكرمة بن أبي جهل.
وترتبط علاقة وحشي بجبير قبل حصوله على الحرية وبعدها، وفي بيت جبير كانت تعيش الفتاة التي أحبها وحشي، وأراد أن ينتقم منها بمفرده أولاً بشرائها وإخضاعها، ولكن سيده يرفض؛ لأنه لا يفرط فيها لاحتياجه إليها فيشي بإسلامها سراً، ولكنه لا يصدقه، وبعد أن ينصرف وحشي مخذولاً تلتقي إرادته مع إرادة سيده بالرغبة في تعذيبها وغسل مخها لتتخلى عن الإسلام، وحين تهرب الفتاة من بيت وحشي، فإن جبير يجهز الخيول للبحث عنها في الطريق ما بين مكة والمدينة.
بيد أن جبيراً وهو يشارك زعماء مكة في الحرب ضد المسلمين والتحريض عليهم، يدخل إلى حظيرة الإسلام يوم الفتح، مع من أسلموا ودخلوا في دين الله أفواجاً.
ومن الشخصيات المهمة في الرواية التي اعتمدت عليها الرواية في بناء الأحداث شخصية أبي سفيان بن حرب، وهو سيد له مهابة وزعيم مكة وقائد جيشها، وقد خسر معركته مع المسلمين يوم «بدر»، وفقد فيها كثيراً من الأبطال والرجال، وهو زوج هند بنت عتبة، التي تقوم بدور المحرض للثأر من المسلمين، كما تحرض وحشياً على قتل حمزة بن عبدالمطلب، وتدفع أبا سفيان لإنجاز مهمة القتال والثأر والانتصار، وهو شخصية براجماتية – إن صح التعبير – فمع أنه كان عدواً شرساً وعنيفاً وعنيداً، وقاد رجال قريش والمشركين منذ البداية لقتال المسلمين والحشد ضدهم وتأليب القبائل عليهم، وخسر في الحروب أقارب وأصدقاء، فإنه لا يستنكف أن يذهب إلى المدينة حين يعلم أن المسلمين يستعدون لقتال قريش وحلفائها بعد أن نقضت قبائل بكر عهدها وهاجمت خزاعة حلفاء المسلمين، لقد ذهب إلى المدينة محاولاً إثناء النبي صلى الله عليه وسلم عن قراره بالحرب، ويوسط لديه ابنته، وأبا بكر، وعمر، وعلياً؛ ولكنه يجد رفضاً وعدم استجابة فيعود خالي الوفاض، وحين يتبين له أن جيش المسلمين قد اقترب وعزم على دخول مكة؛ فإنه يخضع لحسابات عقله، ويعلن استسلامه وإسلامه في آن، وكان قبيل الفتح يواجه رغبة شباب مكة بالحرب والمواجهة مع المسلمين بشيء من المرونة والمراوغة؛ لأنه كان يدرك أن مقاومة المسلمين لا جدوى منها، وقد استطاع أن يحصل على ما يشبه الوسام من النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح حين أعلن: «.. من دخل دار أبي سفيان فهو آمن..»، وكان واحداً من اثنين حطما أصنام الطائف بعد إخضاعها ودخول أهلها الدين الجديد.
ومن أبرز الشخصيات التي تضمنتها الرواية شخصية حمزة بن عبدالمطلب، عم الرسول عليه الصلاة والسلام، وهي شخصية لا نراها على أرض الرواية إلا من خلال الشخصيات الأخرى، وخاصة شخصية وحشي الأساسية، فهو يصفها في أكثر من مناسبة، فنرى حمزة فارس العرب الهمام، وعم رسول الله، وسافك دم الكبار الأعزة من رجالات مكة يوم «بدر» المشهود. (نجيب الكيلاني، قاتل حمزة، ط 2، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1407هـ/ 1987م، ص 14).
حمزة ركن من أركان الإسلام، وحمزة كما تقول هند بنت عتبة: جيش بذاته، ثم هو قاتل الأحبة، ومبدد شمل الأبطال، وهو عمّ محمد والأثير إلى قلبه (الرواية، ص 25)، وهو الذي يفرق الصفوف ويصرع الأبطال كالجمل الأورق، وهو الفارس الذي لا يشق له غبار، وليس في إمكان وحشي أن يلقاه وجهاً لوجه في معركة صريحة، ولكن بالغدر والتخفي يستطيع، وقد فعل، وسقط شهيداً بحربة وحشي الذي اختبأ خلف شجرة وسدد حربته التي اخترقت أحشاءه وهو يجالد كفار قريش وصناديدها، فيخر شهيداً بإذنه تعالى، ويحمد الله الذي كتب له الشهادة وأماته على دين الإسلام!
وهناك شخصية مؤثرة في صنع الأحداث وهي شخصية هند بنت عتبة، زوج أبي سفيان بن حرب، التي تندب قتلاها يوم «بدر»؛ ولدها وأخاها وأباها، وتسعى للثأر لهم، وتحرم على نفسها وضع الزيت على شعرها أو الماء على جسدها وتعلن الحداد حتى يتم الأخذ بثأر الأشراف من بني قومها، وتذهب إلى وحشي وتغريه بالعطاء: «لئن قتلت حمزة يا وحشي فلك مني ما تشاء من مال وذهب وإبل وأغنام.. سأكافئك أعظم مكافأة» (الرواية، ص 16).
وتقف يوم «أُحد» تحرض المقاتلين المشركين: «يا صناديد العرب، إن هي إلا جولة قصيرة، وينتهي أمر محمد؛ فتشفى النفوس، وتهجع نيران الثأر..» (الرواية، ص 22).
ومع أنها مثّلت بجثة حمزة بن عبدالمطلب في انتقام هستيري متوحش، فقد اهتدت إلى الإسلام، ودخلت في دين الله يوم الفتح على قاعدة أن الإسلام يجبّ ما قبله.
ومن الشخصيات المهمة فنياً في الرواية شخصية سهيل، ذلك العبد الذي كان صديقاً لوحشي، وكان يعمل بالتجارة لحساب سيده في الطائف، وينتقل بتجارته من مكان إلى مكان، وكان يزور وحشياً في مكة كلما زارها، وسنجد أن له دوراً مؤثراً في حياة وحشي، فقد كان من الذين أسلموا سراً، وكثيراً ما كان يحاول أن يقنع صديقه بترك الأحقاد والأحزان ليكون بشراً سوياً، وفي مرحلة لاحقه منعه من محاولة الانتحار، وعرض عليه الإسلام، حتى استطاع إقناعه وتشجيعه للقدوم على النبي صلى الله عليه وسلم، فضلاً عن دوره في خدمة المسلمين عن طريق تزويدهم بأخبار أهل الطائف واستعداداتهم العسكرية ونواياهم تجاه المسلمين.
هناك شخصيات عديدة أخرى كان لها دور ما في الرواية، ولكنه من الناحية الفنية دور ثانوي يكمل مشاهد الأحداث أو يربط بينها أو يضيء جانباً من جوانب الصراع حول الدعوة وموقف المسلمين أو المشركين، كما نرى الجارية التي كان يحبها وحشي وأطلق عليها وحشي اسم عبلة، ودخلت الإسلام سراً، وواجهت سيدها بسرها وتعرضت لغضبه وغضب وحشي، وتهرب بإسلامها، ومثلها شخصية وصال تلك المرأة التي كانت تبيع المتعة، وكانت تحب وحشياً وتتمنى أن يتزوجها، ولكنها تؤمن بالدين الجديد سراً، وتترك مهنة الرذيلة، وتلحق بالمسلمين في المدينة، وتتزوج هناك، وتبدأ عهداً جديداً من الطهر والنقاء، وهي أيضاً مثال لقدرة الإسلام على تحويل الشخصية من الحياة السلبية إلى الحياة الإيجابية.
ثم هناك شخصية خالد بن الوليد، قائد الفرسان في موقعة «أُحد»، وقد استطاع أن يقوم بحركة التفاف يوم «أُحد» على المسلمين؛ لأن رماتهم خالفوا الأوامر وتركوا أماكنهم ليجمعوا الغنائم، وتمكن أن يُنزل بالمسلمين خسائر كبيرة، وأن يحقق للمشركين نصراً انتشوا به وهم في طريق عودتهم إلى مكة، ولكن الله يهديه فيدخل الإسلام ويلحق بالمسلمين ويعود مع جيش الفتح الأكبر، ويدخل مكة، ويواجه القلة التي أصرت على القتال يوم الفتح فيبدد شملها، وتولي الأدبار !
الصياغة
تتعدد وسائل الصياغة في الرواية لخدمة السيرة وتقديمها في إطار يقربها من القارئ، بل يجعلها جزءاً من وجدانه وشعوره وذاكرته، فهناك السرد الذكي الذي وظف الجملة والعبارة والفقرة لتقديم الرواية بدءاً من الافتتاحية حتى فقرة الختام.
تبدأ الرواية بقول الراوي:
«امتد الليل البهيم حتى شمل العالم من حوله، وغطى مكة وبطاحها بسواده، ولم تستطع النجوم المتناثرة في كبد السماء أن تبدد إلا النزر اليسير، فبدت مكة ببيوتها كتلة غامضة لا تكاد تبين معالمها، والصمت يضرب أطنابه على الربوع، إنه صمت زائف يخفي تحت طياته انفعالات ثائرة، وأحقاداً مبيتة،، وآمالاً خطيرة يلوثها الشذوذ والعناد.. فغداً يوم الثأر.. غداً تخرج قريش بقضها وقضيضها.. لتثأر من محمد رسول الله.. فهي لم تنسَ يوم «بدر».. تلك المعركة الخالدة التي قتل المسلمون فيها عدداً كبيراً من رجالات مكة وأبطالها.. وأسروا عدداً آخر..
وفي خضم ذلك الظلام، خارج مكة، كان هناك رجل تجلس إلى جواره فتاة، وحيدين في خلوتهما البعيدة، وبدا الرجل شارداً بعض الوقت، تمتمت الفتاة وقد آلمها شروده:
– ما بك يا وحشي؟
– عواصف هائلة تضطرم في نفسي..» ( الرواية، ص 5 ).
وفي هذه الافتتاحية نستشعر الجو العام للرواية، وندخل مباشرة إلى ذروة الأحداث أو عقدتها، ونرى دلالة الليل الذي يشمل العالم كله من حول بطل الرواية ليشمل المكان «مكة» وبطاحها، ثم التأكيد على سواد الليل وقتامته التي لا تبددها النجيمات المنثورة من بعيد؛ وفي كل هذا تعبير عن حالة نفسية مليئة بالقلق والاضطراب والحزن، يعمق من تأثيرها كلمات الغموض والصمت والانفعالات الثائرة والأحقاد المبيتة والشذوذ والعناد.. إنها تضيف عمقاً يؤكد سوء الحالة النفسية والواقعية التي تلف شخصية بطل الرواية والمكان الذي تدور فيه الأحداث، وتنبئنا بالترقب لما سوف يتمخض عنه المستقبل الممتلئ بالثأر والدم انتقاماً لما جرى يوم «بدر» بين المسلمين والمشركين، حيث تعرض الأخيرون لهزيمة قاسية وفقدوا كثيراً من رجالهم وأبطالهم في معركة كانوا يظنون أنهم سيكسبونها في سهولة ويسر، ولكن التجربة كانت قاسية للغاية؛ وهو ما جعل المشركين يعدون العدة لمعركة أخرى فاصلة!
وتشوقنا الرواية لمعرفة بطل الرواية وبطلتها من خلال الإشارة إلى رجل تجلس بجواره فتاة في خلوة بعيدة خارج مكة، ونتعرف على اسم الرجل الذي سيكون محور الأحداث والتحولات، وهو وحشي بن حرب الذي قتل حمزة عم الرسول صلى الله عليه وسلم في جريمة غدر خسيسة جعلت الرسول صلى الله عليه وسلم بعد إسلام وحشي يرفض أن تصافح عيناه وجهه، ويقول له: «غيّب وجهك عني»!
الفتاة تسأل الرجل الذي يجلس بجوارها:
– ما بك يا وحشي؟
فيرد عليها:
– عواصف هائلة تضطرم في نفسي!
وتكون هذه العواصف المضطرمة النواة الصلبة في بناء الرواية ونحن نطالعها، ونتابع أحداثها.
وفي خاتمة الرواية نقرأ عن هدوء هذه العواصف المضطرمة وتحولها إلى يقين وسكينة وعمل صالح لبناء الدولة الإسلامية وتأمينها:
«وعاش وحشي بعدها مجاهداً، وسار مع جموع المسلمين صوب الشمال، واشترك في معركة اليرموك ضد حشود الرومان، وأبدى بطولة فائقة..
ثم يؤكد الرواة أن أجله قد وافاه على فراشه في حمص بالشام، في السنة الخامسة والعشرين للهجرة» (الرواية، ص 269).
قبل هذه الفقرة تشير أحداث الرواية إلى أن وحشياً رأى حمزة بن عبدالمطلب في المنام وابتسم له، ومع خوف وحشي فإن حمزة احتضنه وطوقه بذراعيه وقبّله وأخبره أنه سيكون معه في الجنة حيث الحدائق الخضراء والرياحين وريح المسك والحمائم التي تسجع والأنغام الحلوة الشجية.. مطلع النور حيث تبدو الحقيقة الصافية الصادقة التي تورق في أرضها الخصبة نفس الإنسان بالخير والرخاء والحب والأمل.
هنا تشير الفقرة الأخيرة في الرواية إلى حالة الاستقرار النفسي والصفاء الروحي التي حكمت حياة وحشي، فحولته من شخصية مضطربة تعيش العواصف الهادرة والأحقاد والطموحات الملوثة والأفكار السوداء في الفترة التي سبقت إسلامه إلى شخصية هادئة واثقة تجاهد وتعمل مع الجموع الإسلامية من أجل الإسلام والدولة الإسلامية الناشئة، ويكون في مقدمة الصفوف التي تجاهد في سبيل الله وتواجه أعداء الدين ومن يهددون أمن البلاد، وتتجلى بطولاته في المعارك التي خاضها حتى توفي عام 25هـ في خلافة عثمان رضي الله عنه، ومع ذلك فقد مات على فراشه دون أن يموت في ميدان القتال الذي أبدى فيه بطولات فائقة.
وما بين الفاتحة والخاتمة في الرواية يطالع القارئ موجزاً شائقاً للسيرة النبوية في تتابع محكم يقرب قصة الإسلام وانتصاره على الكفر في مدى زمني قصير نسبياً بمقاييس التحولات الاجتماعية والحضارية التي تستغرق أحياناً مئات السنين، ولكنها هنا استغرقت نحو عقدين من الزمان، وهو مدى قصير واستثنائي على كل حال.
ونلاحظ أن صياغة الرواية تعتمد في بعض فصولها على تحول الضمير من الغائب الذي يسرد، إلى ضمير «المتكلم» الذي هو بطل الرواية حيث يقوم هو بالسرد نيابة عن الراوي (الغائب)، هذا التحول يعتمد على خاصية الاسترجاع أو التذكر أو حديث النفس، كما نرى في الفصلين الأول والثاني على سبيل المثال، فالفصل الأول يبدأ بضمير الغائب «امتد الليل البهيم حتى شمل العالم من حوله..»، ولكنه في الفصل الثاني يبدأ بالسرد عن طريق المتكلم «العيون ترمقني باحترام، والابتسامات تستقبلني أينما اتجهت، وكلمات المديح والإطراء تتسلل إلى أذني كاللحن الجميل..»، هذا التحول يمنح السرد نوعاً من الحيوية ويركز على الشخصية الأساسية في الرواية، ويعطيها قدرة على سرد أحداث السيرة الأساسية من خلال ما جرى ويجري لها، ويلاحظ أن السرد عن طريق المتكلم يتواءم مع إحساس الشخصية الزائد بذاتها، وتجاهلها من قبل الآخرين، أو عدم اكتراثها بما حولها من أحداث وشخصيات وأفكار.