ـ 339 نائباً وافقوا على مشروع التعديل الدستوري وعارضه 142 وامتنع 5 عن التصويت
ـ إقرار القانون النهائي سيكون عبر استفتاء شعبي ويكفيه الحصول على 50% زائد واحد
ـ التعديلات تحمي السلطة التنفيذية من سحب الثقة والانتخابات المبكرة وتوجِد حكومات مستقرة وقوية ومتجانسة
ـ المشروع يعطي للرئيس حق تعيين ما يقرب من نصف المحكمة الدستورية والنقض ومجلس الدولة
أمر الإسلام بتحقيق مقاصده العليا، وحض على إقامة العدل بين الناس، وترك لهم حرية الاختيار بين الوسائل لتحقيق ذلك، حسب معطيات الواقع والظروف الإقليمية والدولية المحيطة بهم، وبما يتوافق مع الروح العامة للشريعة الإسلامية، والرسول صلى الله عليه وسلم أقر مبدأ مهماً في هذا السياق، حينما قال: «أنتم أدرى بشؤون دنياكم».
أقر البرلمان التركي في العشرين من يناير الماضي مشروع التعديل الدستوري الذي تقدم به حزب العدالة والتنمية لتغيير النظام في البلاد إلى رئاسي بموافقة 339 نائباً، ومعارضة 142، بينما امتنع 5 نواب عن التصويت، وهكذا يسير المشروع نحو مرحلة جديدة في مساره القانوني المرسوم له بعد البرلمان ويوضع عملياً على سكة التفعيل.
المسار القانوني
تمرير البرلمان مشروع القرار بما يزيد على 60% من نواب البرلمان (330 برلمانياً) ولا يتخطى نسبة الثلثين (367 برلمانياً) يعني أن إقراره النهائي ينبغي أن يمر عبر استفتاء شعبي للناخبين، ويكفيه حينها الحصول على نسبة 50% زائد ناخب واحد منهم، لكن قبل ذلك ينبغي أن يوقّع الرئيس «أردوغان» على مشروع القرار في مهلة لا تتعدى 15 يوماً وفق الدستور التركي الحالي، وهو أمر متوقع بل قد يكون قد حصل فعلاً قبل نشر هذا المقال.
من الناحية القانونية ليس هناك ما يقدح في مشروعية القرار، فقد مر بالخطوات الدستورية والقانونية السليمة منذ طرحه من قبل العدالة والتنمية، ثم نقاشه من طرف اللجنة الدستورية في البرلمان، ثم تداوله مادة مادة في الجمعية العمومية للبرلمان في قراءة أولى، ثم في قراءة ثانية، ثم التصويت أخيراً على المشروع كحزمة واحدة.
بيد أن حزب الشعب الجمهوري المعارض ينوي كما يبدو اللجوء إلى المحكمة الدستورية للطعن في دستورية التعديل، متذرعاً بالصلاحيات الواسعة المعطاة للرئيس، وغياب الإجماع السياسي والمجتمعي عليه، وعدم سرية التصويت، ولكنه مسار لا يتوقع له أن يفضي إلى شيء، باعتبار أن المحكمة الدستورية العليا مخولة بالنظر في «مضمون» القوانين ومدى تطابقها مع الدستور وليس في «شكلها» وخطواتها.
بهذا المعنى، يمكن القول: إن الخطوة القادمة بعد توقيع الرئيس «أردوغان» على مشروع القرار ستكون الاستفتاء الذي يخطط له حزب العدالة والتنمية أن يُجرى في الأسبوع الأخير من مارس أو النصف الأول من أبريل القادمين، حيث يشترط الدستور مدة 60 يوماً كحد أدنى بين توقيع الرئيس وإجراء الاستفتاء.
لماذا النظام الرئاسي؟
من الناحية النظرية، للنظام الرئاسي أفضلية على البرلماني على صعيد ضمان الاستقرار السياسي في البلاد، فهو يحمي السلطة التنفيذية من إجراءات سحب الثقة والانتخابات المبكرة، ويضمن وجود حكومات مستقرة وقوية ومتجانسة من خلال الاعتماد على الكفاءات والتكنوقراط أكثر من الانتماء الحزبي، وهو أمر يمكن أن يساهم في خفض حدة الاستقطاب في البلاد، إضافة إلى تعزيزه للدور التشريعي للبرلمان عبر تجاوز شرط أو تقليد عضوية الوزراء في البرلمان، فضلاً عن حماية الحكومة من الضغوط الخارجية التي تكون أبرز وأوضح في الحكومات الائتلافية في النظام البرلماني.
وأما في الخصوصية التركية، فيعاني النظام السياسي في البلاد من ازدواجية السلطة التنفيذية، بحيث هناك صلاحيات كبيرة للرئيس تتقاطع وتتعارض أحياناً مع سلطات رئيس الوزراء الذي يفترض أنه رأس السلطة التنفيذية في النظام البرلماني، بمعنى أننا أمام سلطة برأسين لطالما تسببت في أزمات بين المنصبين، كما أعطيت للرئيس صلاحيات تعيق عمل البرلمان وتجعله وصياً عليه وفق دستور 1982 المعمول به حتى الآن والذي صممته مجموعة انقلاب عام 1980م لضمان السيطرة على الحياة السياسية في البلاد لفترة طويلة.
من جهة أخرى، للائتلافات الحكومية في التاريخ التركي الحديث سمعة سيئة، سيما في سبعينيات ثم تسعينيات القرن الماضي، حيث أدى الانهيار السريع والمتكرر للحكومات المتعاقبة إلى انسداد سياسي وأزمات اقتصادية أوصلت البلاد إلى حافة الإفلاس، وأجبرتها على الاقتراض من صندوق النقد الدولي، والخضوع لشروطه المجحفة على مدى سنوات طويلة، قبل أن يسد العدالة والتنمية هذا القرض ويتحرر من قيوده.
هذه الخلفية التاريخية والمشكلات البنوية في النظام السياسي دفعت بالعدالة والتنمية إلى وضع خطة النظام الرئاسي قيد التداول والتفعيل، بعد أن ظل حبيس الرفوف لسنوات طويلة، ويهدف الحزب ومن خلفه «أردوغان» إلى بلورة نظام سياسي برأس واحد للسلطة التنفيذية، بما يضمن تضافر عمل المؤسسات والسلطات المختلفة بدل تعارضاتها الحالية وسرعة اتخاذ القرار التي ظهرت في المحاولة الانقلابية الأخيرة مدى حاجة تركيا الماسة لها.
تخوفات المعارضة
أما المعارضة التركية فمنقسمة على نفسها، حيث أيد حزب الحركة القومية ثاني أحزاب المعارضة هذا المشروع، بل ولم يطرحه العدالة والتنمية على البرلمان إلا بعد التوافق على مواده من خلال التداول معه، بينما يعارضه حزب الشعب الجمهوري أكبر أحزاب المعارضة بشدة، ويرى فيه تقويضاً لأسس الجمهورية التركية، وتحويلها لـ«دكتاتورية»، وليس مجرد تعديل على طريقة الإدارة، وأما حزب الشعوب الديمقراطي (القومي الكردي) فرافض للمشروع، لكنه مشغول أكثر بمشكلاته الداخلية واعتقالات قيادته ونوابه على ذمة التحقيق في قضايا تتعلق بدعم الإرهاب.
في التفاصيل، يكمن تحفظ المعارضة الرئيس في عدم الفصل بين السلطات وضعف آليات التوازن بينها، كما ترى أن التعديل الدستوري يمنح صلاحيات واسعة جداً للرئيس دون آليات رقابة واضحة وفاعلة، حيث من حق الرئيس في النظام المنشود إصدار مراسيم وتعميمات لها قوة القانون، وإعلان حالة الطوارئ في البلاد، وحل البرلمان، والدعوة لانتخابات مبكرة دون تحديد الشروط والظروف اللازمة لذلك.
من جهة أخرى، يعطي المشروع للرئيس حق تعيين ما يقرب من نصف أعضاء كلّ من المحكمة الدستورية ومحكمة النقض (العليا) ومجلس الدولة والهيئة العليا للقضاة والمدعين العامين.
وإضافة إلى حرمان البرلمان من حق التصويت على منح الثقة للحكومة أو سحبها، أو حتى مساءلة واستجواب الوزراء إلا عبر أسئلة خطية، فإن محاسبة الرئيس على أي خطأ أو جرم تحتاج إلى نصف أعضاء البرلمان لفتح تحقيق، والثلثين لإحالته على المحكمة الدستورية لمحاكمته، الأمر الذي يصعّب من إمكانية محاكمة الرئيس مستقبلاً، سيما في ظل تعيينه نسبة مهمة من القضاة والمدعين العامين الكبار وأعضاء المحكمة الدستورية.
تركيا الجديدة
تظهر استطلاعات الرأي المجراة حتى الآن ارتفاع نسبة تأييد لمشروع التعديل الدستوري مؤخراً إلى نسبة قريبة من 50%، وهو أمر متوقع في ظل اتفاق العدالة والتنمية والحركة القومية عليه، إذ حصلا معاً على حوالي 60% من الأصوات في آخر انتخابات برلمانية (2011م).
وبالنظر إلى الفترة الزمنية المتاحة قبل إجراء الاستفتاء وما سيتخللها من حملات انتخابية للحزب الحاكم والمعارضة على حد سواء، سيكون من الصعوبة بمكان التنبؤ بفرصته ومآلاته، حيث سيخضع الأمر أولاً لكيفية عرض كلا الطرفين للأمر ومدى تقبل الناخب له، إضافة إلى رأي القاعدة الشعبية لحزب الحركة القومية التي لا تبدو مجمعة على المشروع كقيادة الحزب، فضلاً عن مدى تأثير الحالة الأمنية والأزمة الاقتصادية في البلاد حتى موعد الاستفتاء وخلاله.
لكن، في المحصلة، وفي حال سارت الأمور وفق ما هو متوقع، سيقر الاستفتاء الشعبي مطلع الربيع القادم النظام الرئاسي في تركيا، بما يجعلها أكثر استقراراً من الناحية السياسية، وسرعة في اتخاذ القرار، وتناسقاً بين السلطات سيما التنفيذية، ومقاومةً للضغوط الخارجية، وقدرة على تنمية الاقتصاد وانتشاله من أزمته.
لكن كل ذلك لا ينفي أن الأمر سيزيد من حدة الاستقطاب الداخلي سياسياً ومجتمعياً، وهو عبء سيكون على تركيا مواجهته في الفترة القادمة؛ تجنباً لارتداداته السلبية الكبيرة على مستقبلها، وتأثيره المتوقع على أهدافها الكبيرة المتعلقة بمشروع «تركيا الجديدة» أو «تركيا القوية» والمؤقتة بعام 2023م؛ أي مئوية تأسيس الجمهورية التركية.