يرجع أصل “العلمانية” إلى حدة الصراع الضاري بين العلم والكنيسة في الغرب الأوروبي الذي أنتج لديهم فكرة تحرير الدولة من الدين والكنيسة، والانخلاع من ربقة الدين المتمثل في الكنيسة التي هيمنت فيها تفرد سيطرة رجال الدين من الرهبان بتفسير النصوص الدينية، وفرض رقابة صارمة على العلوم الأخرى ووضعها تحت رقابة صارمة لرجال الكنيسة الذين يسلطون على كل باحث يخالف نصوص الكنيسة بإعلان الحرمان وتعريضه للتعذيب والقتل في أحيان أخرى.
مما أفرد رد فعل مضاداً للكنيسة وللدين باعتبار أن الكنيسة ورهبانها هم من يمثل الدين، وأن كل الفظاعات التي تمارسها الكنسية ورهبانها ضد فكرة التحرير والتنوير والعلم والعلماء كانت تصدر باسم الدين؛ مما أفرز مفهوماً جديداً في الوسط العلمي والثقافي الأوروبي وهو العلمانية المتضادة مع الدين.
وتوسعت حدة الصراع بين العلم والكنيسة في المجتمعات الغربية في أواخر العصور الوسطى التي عرفت في التاريخ بعصور الظلام، حيث كان الجهل والتخلف هما العلامتان البارزتان في الحياة الأوروبية إلى أن أشرقت فيها بوادر عصر التنوير عن طريق اتصال أوروبا بالعالم الإسلامي عن طريق عدة منافذ؛ أولها الحروب الصليبية التي شنتها أوروبا بمباركة الكنيسة لاحتلال بيت المقدس، وعن طريق هذه الحروب تأثر القادمون بما وجدوه من تقدم حضاري ورقي إنساني جعلهم ينقلون الكثير من المظاهر الحضارية التي وجدوها في هذه البلاد، كما كان للقرب الجغرافي بين الأندلس وباقي أوروبا أثر كبير في نقل مظاهر الحضارة الإسلامية وخاصة مع بداية مرحلة حركة الترجمة من اللغة العربية لغة الحضارة إلى اللغات الأوروبية التي ساهمت في حركة التنوير الأوروبية؛ كما كان لحركة التجارة المتبادلة بين الممالك الأوروبية والمدن الإسلامية المطلة على البحار دور بارز في نقل مظاهر الحياة المزدهرة في العالم الإسلامي، ومدى تأثر التجار الأوروبيين بتلك الحياة ومحاولة محاكاتها في بلادهم.
إلا أن حركة التنوير كانت متأثرة بصراعها مع الكنيسة، فكانت ترى فيها العقبة الكؤود أمام حركة التطور؛ مما دفع إلى إعلان الحرب على الدين؛ في حين أن الحضارة الإسلامية لم تسجل أي مظهر من مظاهر هذا الصراع لاعتبارات التكامل بين الحضارة والدين، بل إن الدين أهم عامل في تأكيد مقومات الحضارة الإسلامية.
وفي أقل تقدير، ترى النخب الغربية في مبدأ فصل دين عن الدولة ليس القضاء عليه تماماً، بل يمكن أن يبقى بعد أن يتم تحجيمه – إلى حجمه الطبيعي – وحصره كحق فردي شخصي متعلق بمعتنقه ولا يتعداه إلى الجانب الاجتماعي أو إلى باقي شؤون الحياة.
واستبدال الموروث الأخلاقي اللاهوتي بقيم وأخلاق مصدرها العلم أو القيم الاجتماعية السائدة في مجتمعاتهم دون الرجوع إلى كتابهم المقدس، وكذل اعتمادكم في التشريع على القانون العام لعدائهم لكل ما هو ديني ولافتقار كتبهم – المقدسة – على قيم تشريعية يمكنهم الاقتباس منها.
ورغم ما تتمتع به الحضارة الإسلامية من سعة أفق وانفتاح كبير على الفكر العالمي والقدرة على استيعاب التجارب الإنسانية والاستفادة منها تحقيقاً للمصلحة ودرءاً للمفسدة واستيعاب كل ما هو صالح دون انصهار وضياع وكذلك دون انغلاق وتحجر.
فإنها تعتمد على قواعد وضوابط شرعية ومنهجية في قبول الأفكار الجديدة والمستوردة يحكمها العقل ولا تتعارض مع الشريعة التي تختلف في أصولها وشموليتها عن الموروث الديني الكنسي.
ويتمثل ذلك في أنها تمتلك أهم عاصم من عواصم الفكر الإسلامي المتمثل في قيامها على قواعد العقيدة والشريعة الإسلامية المستوحاة من الله تعالى بكل أركانها وأصولها وعناصرها ومقوماتها وخصائصها، وهو المصدر الوحيد المعصوم لتلك العقيدة والشريعة السليمة، وهذا ما ميزها عن غيرها من العقائد والشرائع والتصورات والأفكار والفلسفات البشرية التي ينشئها العقل البشري القاصر وغير المعصوم والمعرض لاحتمالية التحيز، والخطأ والصواب أحياناً أخرى، فالشريعة الإسلامية تتميز بكونها شريعة إلهية صحيحة، ولم يعترها تحريف، وليست من صنع بشري تتصف بالسعة والشمول مع المرونة والصلاحية في كل زمان ومكان وهذا ما تفتقر له الشرائع الأخرى.
فهذه الخصائص التي ميزت الشريعة الإسلامية تجعل من الضروريات التمسك بها ولاقتباس منها وتقوية صلاحيتها وشرعيتها في التشريع والتدخل في كل مظاهر الحياة.
إلا أن هذه الأمة قد ابتليت ببعض أبنائها من الذين خلت عقولهم من التزود من علوم الشرعية، ولم يتضلعوا في الأخذ من مناهل مصادرها الأصلية، وتربوا على فتات موائد الغرب العلماني مع افتقارهم لقاعدة علمية قوية أو منهجية بحثية علمية دقيقة وبعقول خالية فأصاب فراغهم فتمكن منهم دون عناء فأصابهم بتشوه في قبول العلمانية وتنوع تأرجحهم ومواقفهم تجاه العلمانية ما بين القبول الجزئي في بعض المظاهر والأفكار والتصورات والمفاهيم دون الفصل الشامل ما بين الدين والحياة، وهو ما عرف بالاعتراف بالدين مع – حصره في مكانه الطبيعي – المسجد والصلاة وجعله حالة فردية تنحصر في العلاقة بين الإنسان وربه، دون أن يدخل الدين في السياسة وإدارة الدولة، وهو ما عبر عنه أحد الساسة بقوله: “الدولة لا دين لها”، والموقف الآخر الذي يرى في العلمانية بوصفها رؤية شاملة للكون والحياة وهي البديل للدين في إدارة الدولة، في حين يوجد اتجاه ثالث يتأرجح بين المفهومين في عملية خلط مشوهة وغير واضحة المعالم ولم يستقر له رأي في تبني إحدى الرؤيتين أو يخرج برؤية جديدة خاصة به نابعة من معتقده متأثرة بثقافته وبيئته الثقافية والاجتماعية، فهو في منزلة بين المنزلتين في موقفه من العلمانية سواء كانت جزئية أو كلية.
وما يمكن أن نخلص إليه من نتائج هو أن هذه النبتة التي جيء بها من بيئتها الخاصة بها إلى بيئة أخرى لا تتناسب مع طبيعتها في محاولة يائسة من قبل أشخاص غير مؤهلين أخذهم الانبهار بما شاهدوه من أشياء أعجبتهم نظارتها الزائفة في تلك البيئة المختلفة، فأرادوا أن يزرعوا هذه النبتة الغريبة في بيئتنا (الإسلامية) التي لا مكان لها فيها؛ لأنها لا تستطيع أن تتكيف وتعيش في بيئة محصنة لها خصوصيتها وخصوبتها الخاصة الطيبة التي لا ينبت فيها إلا النبات الطيب الذي يخرج من أرضها الصالحة لإنبات نباتها وتنفث ما خالف زرعها الأصيل المسقي من نبعها العذب الزلال.