لا يزال مئات آلاف المدنيين العزل يعيشون في أحياء يسيطر عليها تنظيم “داعش” الإرهابي، في الشطر الغربي لمدينة الموصل (شمال)، يقبعون وسط الخوف والجوع والموت الذي تنبعث رائحته من كل الأنحاء.
يكون الخروج من المنازل أشبه بالانتحار في المناطق الواقعة على خط النار بين القوات العراقية ومسلحي “داعش” غرب المدينة، بينما يكابد المدنيون للبقاء على قيد الحياة نتيجة شح كبير في الغذاء ومياه الشرب والأدوية وغيرها من المتطلبات اليومية الأساسية.
ولا يتسنى الاتصال بالمدنيين المحاصرين في الموصل بسهولة، نتيجة رداءة شبكات الاتصالات، وعدم توافر الكهرباء لشحن الهواتف الجوالة، فضلاً عن حظر تنظيم “داعش” حيازة الهواتف.
وجوه الناس أصبحت شاحبة من الجوع
وبعد محاولات استمرت 15 يوماً، تمكنت “الأناضول” من تأمين اتصال مع أبو محمد وهو أحد سكان شارع الفاروق، المجاور لجامع النوري الكبير، الذي أعلن من على منبره زعيم “داعش” أبو بكر البغدادي إقامة “دولة الخلافة”.
تحدث أبو محمد بصوت خافت مرتجف لا يعرف من أين يبدأ وكيف يصف الأوضاع التي يواجهونها، قائلاً: لا أعرف أننا أحياء أو أموات، الحياة متوقفة، والنهار كالليل، والليل أشبه بالجحيم، إننا أموات.. بالفعل أموات!
لم يتمالك أبو محمد نفسه ليجهش بالبكاء قبل أن يضيف أن طعامهم الرطب (التمر) فقط، والذي قاموا بتخزينه قبل بدء الحرب، ومع مرور 6 أشهر، قارب المخزون الغذائي من هذه المادة النفاد.
وأوضح أن الآبار التي حفروها في المنطقة للتزود بالماء جفّت، وأنهم يشربون من المياه الآسنة (تغيّر لونها ورائحتها) ومياه الأمطار بعد تصفيتها بطرق بدائية.
وتابع أبو محمد أن بكاء الأطفال لا يتوقف، وأصبحت وجوه النساء والرجال شاحبة وأجسادهم نحيلة جداً من شدة الجوع وقلة الخدمات وانتشار الأمراض.
وأشار إلى أن الخروج إلى باحة المنزل يعد انتحاراً؛ بسبب القصف الصاروخي العشوائي والإطلاقات النارية المستمرة من كلا طرفي النزاع على الأرض، والقصف الجوي.
طائرات التحالف.. وكأنها تقصف الصحراء!
ولفت إلى أن الطائرات تقصف الأحياء السكنية وكأنها تقصف الصحراء! في إشارة إلى عدم المبالاة بالخسائر البشرية والمادية التي تحدث عند قصف المناطق في الجانب الغربي للموصل.
أبو محمد، أوضح أنه تحدى الموت وأجرى جولة سيراً على قدميه في بعض أزقة وشوارع المناطق غير المحررة في إطار بحثه عن الماء، فوجد أن الشوارع خالية من المارة وبشكل نهائي، وأن أعداد المسلحين الموجودين في المنطقة القديمة (المركز) تقدر بالعشرات.
وقال: إن القوات العراقية قادرة على القضاء عليهم إذا ما أرادت ذلك؛ لأنها تملك ترسانة عسكرية هائلة، بدلاً من اعتمادها على القصف الصاروخي الذي يكبد المدنيين العزل خسائر في الأرواح والممتلكات ولا يكبد التنظيم أي خسائر تذكر.
وعندما شنت القوات العراقية الهجوم لاستعادة الجانب الغربي للمدينة في 19 فبراير الماضي، قدرت الأمم المتحدة وجود 800 ألف مدني في هذا الشطر.
فرّ منهم حتى الآن ما يقارب 250 ألفاً، حيث تزايدت حركة النزوح على نحو متصاعد، وخاصةً في أعقاب مقتل العشرات بالأحياء الواقعة ضمن المدينة القديمة وسط الشطر الغربي والتي تمتاز بالأزقة الضيقة المكتظة بالمدنيين.
ومن بقي من المدنيين في الأحياء الواقعة على خط النار أو التي لا تزال تحت سيطرة “داعش”، يكابدون للبقاء على الحياة وسط ظروف إنسانية صعبة للغاية.
يخاطرون بحياتهم من أجل جلب الماء
أم مروان، امرأة مُسنّة موصلية اضطرت إلى النزوح من منطقة الساعة (وسط الموصل) إلى منطقة الإصلاح الزراعي، وهما حيان في الجانب الغربي للمدينة؛ هرباً من القصف العشوائي الذي يصيب المنطقة في الليل والنهار.
وقالت: إن عائلتها وجميع العائلات الموصلية، التي ما تزال محاصرة، تعتمد في غذائها على الحشائش، خاصة مع بدء موسم الربيع، لعدم توافر المال لشراء المواد الغذائية إن وجدت في الأصل.
وبينت أنه لا يمكن للكلمات أن تصف الحالة المعيشية التي يمرون بها منذ شهور عدة.
وتوضح أم مروان في اتصالها الهاتفي الذي أجرته “الأناضول” معها، أن ابنها البالغ من العمر 40 عاماً يضطر إلى الخروج مع ساعات الفجر الأولى مع عربة مصنوعة من الخشب، يسير بها مسافة كيلومترين حتى يصل إلى نهر دجلة ليأتي بالمياه.
وأشارت إلى أن هذه الرحلة اليومية محفوفة بالأخطار؛ بسبب تمركز القناصة التابعين للقوات العراقية في ضفة النهر من جهة الشطر الشرقي للمدينة، والذين يطلقون النار على أي حركة؛ ظناً منهم أنها لمسلحي “داعش”، أو قناصة التنظيم الذين يتمركزون في الضفة الغربية للنهر، والذين يطلقون النار على أي حركة أيضاً؛ ظناً منهم أنها محاولة للهرب.
وقالت أيضاً: إن عملية الوصول إلى مجرى النهر لا تنجح في الكثير من الأحيان؛ بسبب اشتداد المعارك وسقوط المقذوفات النارية في كل مكان والتي تعيق مهمة التنقل، لذا ففي أغلب الأيام تعاني العائلة نقص المياه؛ الأمر الذي يدفعها للاعتماد على المياه الآسنة والأمطار لمواصلة العيش.
أم مروان، وخلال مدة الاتصال، التي لم تتجاوز الـ5 دقائق، تمنت الموت أكثر من 35 مرة، فكانت تقول: نتمنى الموت على مثل هذه الحياة، بين كل جملة وأخرى تقريباً، في دلالة على حجم الظروف القاهرة التي يمرون بها، وكيف أنهم باتوا يفضلون الموت على العيش في مثل هذه الظروف التي ليس فيها إلا الجوع والعطش والخوف.