يوجد في منطقة أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى أعلى معدل لانتشار الجوع (بالمقارنة بعدد السكان)؛ حيث يعاني واحد من كل أربعة أشخاص من سوء التغذية ونقصها؛ وهو ما يتسبب في نحو نصف عدد حالات الوفيات (45%) بين الأطفال دون سن الخامسة؛ أي نحو 3.1 مليون حالة وفاة كل عام، ويعاني واحد من كل ستة أطفال – نحو 100 مليون طفل – في البلدان النامية من نقص الوزن.
يعاني واحد من كل أربعة أطفال في العالم من التقزم، وقد ترتفع هذه النسبة في البلدان النامية إلى واحد من كل ثلاثة أطفال، بل هناك 66 مليون طفل في سن المدرسة الابتدائية في البلدان النامية يحضرون إلى الفصول وهم جوعى، 23 مليوناً منهم في قارة أفريقيا وحدها، حسب ما أصدره تقرير حالة انعدام الأمن الغذائي في العالم، لمنظمة الأغذية والزراعة (فاو)، وتقارير منظمة الصحة العالمية.
في ظل هذه الأرقام المخيفة التي يعاني منها المجتمع الإنساني، يتجه العالم إلى منطقة الخليج العربي طلباً للمعونة والمساعدة لكل القضايا الإنسانية من موجات الجفاف أو الزلازل والثورات البركانية، بالإضافة للحروب التي يموت فيها الكثير من المدنيين، فأصبحت تقام هنا المؤتمرات الإنسانية والملتقيات الخيرية التي لاقت اهتماماً كبيراً من القيادات السياسية الخليجية، وكذلك من المجتمع المدني الذي ضرب أروع الأمثلة في تفاعله مع تلك الأزمات وقيادته الجديدة للعالم الإنساني، ومنها إطلاق لقب أمير الإنسانية لصاحب السمو أمير البلاد الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، ولدولة الكويت بأنها مركز للعمل الإنساني.
تأتي هذه المساعدات الإنسانية التي يقدمها أهل الخليج بسبب الملاءة المالية وقوة دخل الفرد في هذه المنطقة التي حباها الله بنعمة النفط الذي يمثل مصدراً كبيراً للطاقة يحتاجه العالم ساهم في هذه الوفرة المالية الكبيرة، وهو ما حدا بدول الخليج لإنشاء العديد من صناديق التنمية المالية التي أحدثت قوة في الاستثمار عززت من الدخل القومي لتلك الدول.
وهنا تساءلت: هل كان المال هو السبب الوحيد فيما يقوم به أهل الخليج من مبادرات كبيرة في الملف الإنساني العالمي، أم أن هناك أسباباً أخرى دعتهم لحب مساعدة الإنسان المكلوم والجائع الضعيف، خاصة أنها ليست الدول الوحيدة التي تمتلك المال، فهناك دول كبيرة وكثيرة لديها القدرة المالية لتقديم المساعدات لأهل الحاجة?
لن أتحدث هنا عن الوازع الديني، وأنه أحد أهم الأسباب التي تحرك المسلم، والأحاديث النبوية كثيرة في هذا المقام، أكتفي بذكر حديث واحد، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لأن أمشي في حاجة أخي خير لي من أن أعتكف في مسجدي هذا شهراً كاملاً» (يقصد المسجد النبوي الذي تعادل الصلاة الواحدة فيه بألف صلاة فيما سواه).
حياة ما قبل النفط
دعونا نتعرف على حياة أهل شبه الجزيرة العربية قبل النفط، هل كانوا يملكون شيئاً يساعدهم على مصاعب الحياة في منطقة تعتبر الأكثر قسوة بسبب بيئتها؟ حيث إن درجة الحرارة تصل لمستويات عالية تتجاوز الخمسين درجة مئوية في الصيف، بالإضافة إلى فترات من الجفاف وتوقف هطول الأمطار؛ ما يؤذن ببداية مجاعة يموت فيها الناس والدواب التي تعد مصدر الرزق الوحيد لأهل البادية، ولك أن تتخيل عدد المجاعات التي أصابت الجزيرة العربية خلال آخر ثلاثمائة سنة قبل فترة النفط لتتجاوز أربعين مجاعة بمعدل مجاعة كل خمس سنوات.
بدأ أهل شبه الجزيرة العربية بتسمية سنواتهم بأسماء تلك المجاعات التي أصابتهم التي مات بها أهلهم وأحبابهم، سأذكر بعضها: سنة جلدان (جدب): عام 1623م، سنة ديدبا (جدب): عام 1630م، سنة بلادان (جدب): عام 1637م، وفيها جاءت قافلة إلى نجد، فلم تجد في العارض تمراً، وما اكتالت إلا من الخرج، سنة هبران (جدب): عام 1655م، وفيها أكل الناس الميتة والجلود البالية بعد حرقها، ومات كثير من الناس جوعاً، سنة الحجر: عام 1656م، ولم تذكر تفصيلات عنها، سنة جرمان (جدب): عام 1674م، وفيها أكلت الميتة.
وتستمر سنوات الجفاف والمجاعة، فهذه سنة سمدان (جدب): عام 1703م، وفيها جدب وغلاء شديد، سنة الدبا (جراد): عام 1710م، وفيها كثر الجدب، وفي السنة التي بعدها، سنة سحي (جدب): عام 1724م، وفيها عمَّ القحط من الشام شمالاً حتى اليمن جنوباً، حتى قال الشاعر النجدي:
غدَا الناس أثلاثاً، فثلث شريدة
يلاوي صليب البين عارٍ وجائع
وثلث إلى بطن الثرى دفن ميّتٍ
وثلثٌ إلى الأرياف جالٍ وناجع
سنة قرادان (جدب وغلاء): عام 1741م، سنة خيران (خصب): عام 1742م، وفيها جاء لمنطقة الخرج سيل خربها، سنة شيتة (جدب): عام 1750م، وفيها قحط وغلاء بدأ قبلها بعامين، واشتد في هذه السنة، سنة رجعان شيتة (خصب): عام 1752م، سنة سوقة (غلاء): عام 1765م، وذكر المؤرخ عبدالله البسام في كتابه «تحفة المشتاق في أخبار نجد والحجاز والعراق» أنها وقعت عام 1767م، وفيها حدث غلاء ومات كثير من الناس جوعاً ومرضاً، ولكن في آخرها نزل الحيا وسمياً مبكراً، سنة دالوب (جدب): عام 1784م.
كما أن الشعراء كان لهم مساهمتهم في توثيق تلك المجاعات التي أصابت أهل منطقة شبه الجزيرة العربية، وهنا سنة رجعان دالوب (خصب): عام 1786م، وقد شبه الشاعر محمد بن لعبون ممدوحه أحمد بن ضاحي العون، فقال:
فكّاك عاقاتي ورجعان دالوب
سمع لندا من ضامه الضد ومجيب
ومن تلك السنين الصعبة سنة ساحوت: عام 1910م، ووقع فيها مرض يصيب المعدة يسبب الشره في الطعام، هي سنة «الجوع» في نجد، سنة الجرب: عام 1922م، ونفقت بسببه أعداد كبيرة من الإبل، سنة البرد: عام 1926م، وحدث فيها برد شديد في نجد استمر أربعين يوماً، سنة الجدري: عام 1939م، سنة جبار: عام 1941م، وتفاءل الناس فيها بالخصب بعد جدب سبقها، تسمى أيضاً سنة الشهاقة حيث انتشر مرض السعال الديكي بين الأطفال، وقضى على أعداد كبيرة منهم، سنة الدبا: عام 1945م، سنة الظلمة: عام 1952م، وهبت فيها رياح شديدة على نجد، وأظلم الجو فيها ثلاثة أيام.
سنة الهيلق (جوع): عام 1868م، وفيها عم الجوع المنطقة، واضطر الكويتيون وغيرهم إلى شرب دماء البهائم، واستمر ثلاث سنوات، ولم ينته إلا في عام 1871م، ونذكر هنا الجهود الخيرة التي بذلها المحسنون من أهل الكويت مثل يوسف البدر، ويوسف الصبيح، وعبداللطيف العتيقي، وسالم بن سلطان، وبيت معرفي، وبيت ابن إبراهيم، وغيرهم، في التفريج عن كربات المعوزين في تلك المجاعة، حتى قال فيهما الشاعر العراقي عبدالغفار الأخرس:
إن الكويت حماها الله قد بلغت
باليوسفين مكان السبعة الشهب
تالله ما سمعت أذني ولا بصرت
عيني بعزهما في سائر العرب
فيوسف بن صبيحٍ طيب عنصره
أذكى من المسك إن يعبق وإن يطب
ويوسف البدر في سعدٍ وفي شرف
بدر الأماجد لم يغرب ولم يغب
وبعد هذه التطوافة في المجاعات التي مرت بأهل الخليج، يتيقن عندي أن هذه الرحمة التي يتصف بها أهل الجزيرة العربية هي من تلك المعاناة الكبيرة التي مروا بها التي حصدت الأنفس؛ فتأصلت فيهم قيمة التكافل المجتمعي وأخلاق من كرم، رغم الجوع والفقر والعوز؛ مما جعلهم يحبون مساعدة الآخرين وتقديم العون لهم، وهكذا نتعلم أن أكثر الناس شعوراً بالمحتاجين هو من عاش حياتهم وتألم بآلامهم، فمن رحم الآلام تنبض الرحمات.