أعجبَتْني قصةٌ وصَلَتْني عَبْرَ البريدِ الإلكترونيِّ، وهي قصةٌ رَمْزِيَّةٌ، إلّا أنَّها ذاتُ مغزى عميقٍ، تقولُ القصةُ:
“يُحْكى أنَّ طاعونَ الجنونِ نَزَلَ في نهرٍ يَسْري في مدينةٍ، فصارَ الناسُ كُلَّما شرِبَ أحدٌ مِنهم مِنَ النهرِ يُصابُ بالجنونِ، وكان المجانينُ يجتمعون ويتحدثون بِلُغَةٍ لا يفهمُها العُقَلاءُ.
واجَه الملكُ الطاعونَ، وحاربَ الجنونَ، حتى إذا ما أتى صباحُ يومٍ، استيقظَ الملكُ وإذا بالملكةِ قدْ جُنَّتْ، وصارت الملكةُ تجتمعُ مع ثُلَّةٍ مِنَ المجانين؛ تشتكي مِنْ جُنونِ الملكِ.
نادى الملكُ الوزيرَ: يا وزيرُ، الملكةُ جُنَّتْ، أين كان الحَرَسُ؟
الوزير: قد جُنَّ الحرسُ يا مولاي.
الملك: إذًا اطلبِ الطبيبَ فورًا.
الوزير: قد جُنَّ الطبيبُ يا مولاي.
الملك: ما هذا؟! مَنْ بَقِيَ في هذه المدينةِ لمْ يُجَنْ؟
رَدَّ الوزيرُ: للأسفِ يا مولاي لمْ يَبْقَ سِوى أنتَ وأنا.
الملك: يا الله، أأحكمُ مدينةً من المجانين؟
الوزير: عذرًا يا مولاي، فإنَّ المجانينَ يدَّعون أنَّهم هُمُ العقلاءُ، وأنه لا يوجدُ في هذه المدينةِ مجنونٌ سوى أنت وأنا.
الملك: ما هذا الهراء؟! هم مَنْ شرِبَ مِنَ النهرِ، وبالتالي هم مَن أصابَهم الجنونُ.
الوزير: الحقيقةُ يا مولاي أنهم يقولون: إنهم شرِبوا من النهر لكي يتجنبوا الجنونَ؛ لذا فإننا مجنونان؛ لأننا لم نشربْ. ما نحن يا مولاي إلا حَبَّتا رملٍ الآن؛ فهم الأغلبيةُ، وهم مَنْ يملِكون الحقَّ والعدلَ والفضيلةَ، وهم الآن مَنْ يَضَعون الحدَّ الفاصلَ بين العقلِ والجنونِ.
هنا قال الملك: يا وزير، أَغْدِقْ علَيَّ بكأسٍ مِنْ نهرِ الجنونِ؛ فإنَّ الجنونَ أنْ تظَلَّ عاقلًا في دنيا المجانين”.
انتهتِ القصةُ، وكما رَأيتُم فقد رَضَخَ حاكمُ المدينةِ للأمرِ الواقعِ، وآثَرَ أنْ يفعلَ كما فعلَ كلُّ الناسِ ويشربَ مِن النهرِ، وأنْ يكونَ مجنونًا كسائرِ المجانين؛ فما عاد هناك نفعٌ مِنْ وجودِ العقلِ مِنْ وِجهَةِ نظرِه.
فهل حقًّا إنْ جُنَّ رَبْعُك، لا ينفَعُك عقلُك؟ وهل الأكْثَرِيَّةُ هم الميزانُ، وهم مرآةُ الحسناتِ والسيئاتِ، وبِهِم يُعْرَفُ الحقُّ والصوابُ؟
ما وَرَدَ لَفْظُ “أكثر الناس” أو “أكثرهم” في القرآنِ إلّا وجاءَ بعدَه صِفةُ ذَمٍّ أو وصْفٌ قبيحٌ، مثل: لا يَعلَمون، لا يشكرون، لا يؤمِنون، فاسِقون، يَجْهَلون، مُعْرِضون، لا يَعْقِلون، لا يَسْمَعون؛ فهل مِنَ العقلِ أنْ تَتَّبِعَ الأكثرِيَّةَ إنْ كانتْ هذه صِفاتِهم؟
تَلَفَّتْ حَوْلَك وانظُرْ أكثرَ الناسِ ماذا يفعلون وكيف يفكرون؟ انظرْ إلى المُنْكَراتِ التي ملأتْ حياتَهم، والخرافاتِ والتُّرَّهاتِ والأفكارِ المُعْوَجَّةِ المَحْشودَةِ في رؤوسِهم، والفَلسَفاتِ والطُّقوسِ التي اقتَبَسوها مِن الشرقِ والغربِ دون إعمالِ عقولِهم.
انظر إلى عاداتِهم وتقاليدِهم التي ابتَدَعوها وجَعَلوها كالأصنامِ؛ لا يَجْرُؤُ أحدٌ مِنهم على تغييرِها أو المَساسِ بِها، حتى وإنْ كانت ليست فقط مخالفةً للعقلِ؛ بل وللدينِ أيضًا، ولو سألْتَ أحدَ هؤلاء الإمَّعاتِ لقالَ لك: الناسُ كلُّهم هكذا يفعلون.
لو ظَلّوا يَقْرَعون رأسَك بعبارةِ: “الناسُ كلُّهم هكذا يفعلون، أو يقولون”، وأنتَ تعْلمُ أنهم ليسوا على صوابٍ، أو قالوا لك: “أيُعْقَلُ أنْ يكونَ كلُّ هؤلاء على خطأ، وأنتَ وحدَك المُحِقُّ؟”، فهل سَتسْتَسلمُ وتَنْقادُ لهُم وتُجاريهم فيما يفعَلون مِنْ قَبائحَ ونَقائصَ، أمْ ستبقى ثابتًا على مبدئِك، مُتمسِّكًا بقناعتِك، مُدافِعًا عن رأيِك؟
القرارُ بِيَدِك، وأنتَ وحْدك مَنْ يُقَرِّر، فإمّا أنْ تَنْساقَ وراءَهم وتشْربَ الكأسَ، وإمّا أنْ تكونَ عاقلًا في دنيا المجانين، فماذا تختارُ؟
لقد كان أبو بكرٍ رَضِيَ الله عنه عزيزَ المكانةِ في قومِه في الجاهليةِ، إلّا أنَّه لمْ يَسجُدْ لصنمٍ قَطُّ، ولمْ يشربْ الخمرَ كما كان يفعلُ قومُه؛ فقد أدْرَك أنَّها مَذَلَّةٌ للرجلِ مُذْهِبَةٌ للعقلِ مضيعةٌ في العِرْضِ والمروءةِ، يُصبِحُ شاربُها سيِّدَ قوْمِه ويُمْسي سَفيهَهُم ويَضْحَكُ بِه مَنْ هو أدْنى مِنْه.
لقد كان الصِّدّيقُ عاقلًا حَصيفًا فَهيمًا؛ ولذا لمْ يَتردَّدْ في قَبولِ دَعْوَةِ الحقِّ، وكان أوَّلَ مَنْ أسْلَمَ مِنَ الرجالِ.
بالعقلِ وصِحَّةِ الفَهْمِ يُمَيَّزُ بَيْنَ الحَسَنِ والقَبيحِ، والصَّحيحِ والفاسِدِ، والحَقِّ والباطِلِ، والهُدى والضَّلالِ، والغَيِّ والرَّشادِ؛ والمجتمعُ المُصابُ بِالسُّقْمِ في فَهْمِه والاضْطِرابِ في تَصَوُّرِه ـ لا عِبْرَة بِحُكْمِه، ولا ثِقَة بِوَزْنِه وتَقْديرِه.