القرآن جعله الله هدى لعباده يهتدون ببيانه ويسترشدون بإرشاده وموعظة حسنة تلين القلوب
جعل الله تعالى من أبي بكر الصديق وعثمان بن عفان سبباً في حفظ هذا القرآن
مسؤوليتنا تجاه القرآن الكريم أن نلازمه حتى الممات فيكون دليلنا إلى الله ومرشدنا إلى الحق
لا تعجب ولا تتعجب، فكلنا هو هذا المسافر الغريب، الذي يحيا في هذه الحياة الدنيا تتجاذبه بزينتها ولهوها ولعبها، وتحيطه بفتنتها وفِتَنِها وبهرجها، وتنغصه بمِحنها ومصائبها وابتلاءاتها، يتنقل فيها من حال إلى حال، صبر وجزع.. أفراح وأتراح.. راحة وتعب.. عسر ويسر.. شدة ورخاء.. عز وذل.. ثبات وزيغ، إلا من رحم الله، والكل يحُثّ الخُطى فيها يبحث في سفره عن سبيل الحياة المرضية، وينشد السعادة الأبدية، ويبغي العز الدائم، ويتمنى الخلود السرمدي، وقد بين الله لنا الطريق إلى ذلك كله في كتابه الكريم، الذكر المحفوظ، والهدى والنور، السبيل الحقيقي إلى النعيم الخالد الذي يسعى إليه الجميع على تفاوت فيما بيننا في الأخذ بأسبابه.
الذكر المحفوظ
روى الإمام مسلم في صحيحه أن رسول الله “صلى الله عليه وسلم” قال: «ألا إنَّ ربي أمرني أن أُعلّمكم ما جهلتم مما علَّمني يومي هذا، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك وأنزلتُ عليك كتاباً لا يغسلُه الماءُ، تقرؤُه نائماً ويقظانَ..»، قال النووي: «لا يغسله الماء» فمعناه محفوظ في الصدور، لا يتطرق إليه الذهاب، بل يبقى على مر الأزمان، وأما قوله تعالى: «تقرؤه نائماً ويقظان»، فقال العلماء: معناه يكون محفوظاً لك في حالتي النوم واليقظة، وقيل: تقرؤه في يسر وسهولة(1).
إنه القرآن الكريم، كتاب الله تعالى وكلامه، المحفوظ في السطور والصدور، هذا الكتاب العظيم الخالد، الذي أنار الله بهديه القلوب وحرر به العقول، ومدحه ونفى عنه أي ريب أو شك، فقال: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ {2})(البقرة)، هو سبيل النجاة وطوق الحياة، حيث أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، ومن الكفر إلى الإيمان، ومن الشرك إلى التوحيد، ومن الضلالة إلى الهداية، فكان خاتم الكتب، ناسخاً لما قبله منها ومهيمناً عليها، إذ أنزل على خاتم الرسل محمد “صلى الله عليه وسلم” وكُتب له الحفظ والخلود، فقال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ {9})(الحجر)؛ أي: «لحافظون من كل ما يقدح فيه، كالتحريف والتبديل، والزيادة والنقصان والتناقض والاختلاف، ولحافظون له بالإعجاز، فلا يقدر أحد على معارضته أو الإتيان بسورة من مثله»(2).
حين أكتب عن الذكر المحفوظ والمعجزة الخالدة، تتملكني الرهبة والخوف، فماذا أكتب؟ وماذا أقول؟ وأنَّى لي أن أكتب أو أتحدث عن كتاب هو كلام الله عز وجل، جعله هدى لعباده يهتدون ببيانه ويسترشدون بإرشاده، وموعظة حسنة تلين القلوب وتأسر النفوس وتأخذ بمجامعها، ونوراً ينير لهم طريق سفرهم في رحلة الحياة ببيان سبيل الخير من الشر، والحلال من الحرام، وبيان سبيل المتقين لسلوكه والثبات عليه؟ بل كيف أخطّ حروفي لتتحدث عن كتاب الشفاء والرحمة لكل من يؤمن به ويعمل بما فيه، فينعم بقلب سليم، وبدن صحيح، وقد قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ {57})(يونس)؟
وهل تستطيع أناملي الضعيفة أن تصف كتاباً قد جعله الله فرقاناً بين الحق والباطل والنور والظلمة، وذِكراً فيه من المواعظ والتحذير وأخبار الأمم الماضية، ووصفه بالبركة والعلو والحكمة، فهو أحسن الحديث، وهو النبأ العظيم، وهو المهيمن على ما سبقه من كتب، قال الإمام ابن كثير: «جعل الله هذا الكتاب العظيم، الذي أنزله آخر الكتب وخاتمها، أشملها وأعظمها وأحكمها حيث جمع فيه محاسن ما قبله، وزاده من الكمالات ما ليس في غيره؛ فلهذا جعله شاهداً وأميناً وحاكماً عليها كلها، وتكفل تعالى بحفظه بنفسه الكريمة»(3).
ذكرٌ محفوظ
لقد حفظ الله القرآن الكريم منذ أنزله، فاستودعه قلب نبيه “صلى الله عليه وسلم” وقال له: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ {17} فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ {18} ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ {19})(القيامة)، قال الإمام الطبري: «يقول تعالى ذكره: إن علينا جمع هذا القرآن في صدرك يا محمد حتى نثبته فيه، «وقرآنه» حتى تقرأه بعد أن جمعناه في صدرك»(4).
وجعل الله تعالى من أبي بكر الصديق، وعثمان بن عفان رضي الله عنهما سبباً في حفظ هذا القرآن، فكان أن جمعت آياته في مصحف واحد، وصارت بعيدة المنال عن التحريف والتبديل فجزاهما الله خيراً، بل ولم ينته زمن الحفظ بعد، فلقد يسر الله سبل الحفظ لذكره، وذلك إلى يوم الدين؛ فسخر له القلوب المحبة التي حفظت كل حرف فيه وكل مد وكل حركة، وألفوا الكتب التي تخدمه تلاوة وتجويداً وحفظاً وتفسيراً وتدبراً، بل وإعراباً وأحكاماً وفقهاً وعبادة وكل ما يتعلق به حتى لا يساء فهمه أو يبدل أو يحرف، فصار له محبون وأهلون في كل قطر من أقطار الأمة الإسلامية، بذلوا أعمارهم في الذود عنه والحفاظ عليه وتعليمه لكل من يريد الخيرية، حتى حفظه الصغير والكبير كما أنزل غضاً طرياً.
فهل فكرتَ يوماً في هذا الحفظ المعجز، وتفكرت في حكمته ودلالته؟ أليس في هذا الحفظ رسالة لي ولك ولكل إنسان تدلنا على عظمة هذا القرآن وعلى إعجازه وصدقه؟ أوليس في حفظه دلالة على أنه يَصلح لكل زمان ويناسب كل عصر ويُصلِح كل مكان إذا ما قام المؤمنون بواجبهم تجاهه؟ أولا يشير حفظه إلى صدق رسول الله “صلى الله عليه وسلم” ويدعونا إلى التمسك به والاعتصام بحبله والسير على صراطه والعمل به؟ أفلا يدفعنا ذلك إلى تعلمه وتعليمه وحفظه وتدبره والتعريف به والدعوة إليه، وعدم مخالفته؟
إن مسؤوليتنا تجاه هذا القرآن الكريم وقد حفظه الله لنا أن نلازمه حتى الممات، فيكون دليلنا إلى الله ومرشدنا إلى الحق ومنهجنا في رحلة الحياة ومحطة سفرنا التي نوشك أن نصل إليها، وهذا يتطلب منا أن نعرف أنه لا صلاح لحالنا إلا به، وألا نردد ما يقوله بعض من جهلوا قدره وحقه فقالوا: إن الزمان قد تغير تغيراً يحتاج حذف بعض نصوصه أو تفسيرها بما يناسب الأهواء والمصالح، وغفلوا عن قوله تعالى: (الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ {1})(يونس)، فهو «حكيم فيما يشتمل عليه من الأوامر والنواهي والأخبار، فليس فيه حكم مخالف للحكمة والعدل والميزان»(5)، حكيم: «لما يحوي الحكمة بما فيه من صلاح أحوال النفوس والقوانين المقيّمة لنظام الأمة»(6).
أثره في التربية
إن من شبّ على حب القرآن وتعظيمه والعمل به فاز وأفلح، وهنيئاً لكل والد ووالدة كان القرآن هو المنهج لهما في التربية لأنفسهما أولاً ثم لأولادهما، فغرسا في نفوس الأولاد حب العمل بالقرآن والتعلق بتعلمه وتلاوته وحفظه، وتدبره، والتحاكم إليه والنزول عند حكمه، والرضا به والتسليم له، وما أعظم أن يكون القرآن هو الحكم في خلافات الأسرة التي لا تسلم منها فيما بين الزوجين بعضهما بعضاً، وفيما بين الوالدين وأولادهما، أو الأولاد بعضهم بعضاً!
ما أعظم أن تتحجب الابنة حين تعلم أن الله هو من أمرها بالحجاب في القرآن فقال: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ)(الأحزاب: 59)! وليس الأمر من أمها أو أبيها، ومثل الحجاب أداء العبادات حيث الأمر بها في كتاب الله وتفصيلها في السُّنة النبوية المبينة لها، أما الأخلاق فقد أفاض القرآن الكريم في ذكرها وحث على التخلق بها، ومن ذلك قوله تعالى: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ {90})(النحل).
ومن أصول التربية في القرآن الكريم طاعة الله ورسوله “صلى الله عليه وسلم”، قال تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً {36})(الأحزاب)، إن الحب الحقيقي للقرآن إنما يكون باتخاذه المنهج والدليل والقاضي والحَكَم والشاهد والناصح في أحوالنا المختلفة التي نحتاج فيها لكل ذلك، على مستوى الأفراد والأسر والمجتمعات.
ذلكم هو القرآن الكريم: «كلية الشريعة، وعمدة الملة، وينبوع الحكمة، وآية الرسالة، ونور الأبصار والبصائر، فلا طريق إلى الله سواه، ولا نجاة بغيره، ولا تمسك بشيء يخالفه»(7).
الهوامش
(1) شرح النووي على صحيح مسلم.
(2) تفسير الوسيط لطنطاوي.
(3) انظر تفسير ابن كثير، سورة المائدة، الآية 48.
(4) تفسير الطبري.
(5) تفسير السعدي.
(6) تفسير التحرير والتنوير لابن عاشور.
(7) الموافقات للشاطبي – موقع الدرر السنية.