أعلن مؤشر ترمب لبورصة الأوزان العالمية هبوطًا حادًّا في قيمتنا التسويقية يرادف تقريبًا خروجنا المؤقت من التداول والتأثير!
المؤشر لم يكن متجنيًّا ولا ظالمًا ولا منحازًا ضد وزننا، فما هو إلا تُرجمان موضوعي لواقعنا النسبي المعاصر.. آلمنا المؤشر الحادّ لأنَّه افتقد اللباقة والمداورة وواجهنا بحقيقتنا الراهنة وكشف لنا عن عجزنا الكلي عن الفعل ابتداءً ثم عجزنا كذلك عن رد الفعل انتهاءً! مثّل لنا الإعلان عن نقل سفارة الدولة الكبرى الأكثر تأثيرًا في عالمنا المعاصر صدمة، كأنّ ما حدث كان مفاجأة غير متوقعة أو أمرًا يسير عكس اتجاه الأحداث وضد موازين القوى! وعلى العموم فالصدمات محمودة أحيانًا، فقد تسبب الإفاقة من غيبوبة طويلة عن الوعي، وكما قال الشافعي:
جزى الله الشدائد كل خير وإن كانت تغصصني بريقي
وما شكري لها حمدًا ولكن عرفت بها عدوي من صديقي
في أوج الحماسة التي تعتري الشباب –وقلوب أبناء الأمة جميعاً تجاه القدس شباب، فقد شُغفنا بها حبًّا يجعل قلوبنا شبابًا دائمًا- نحن الآن في غرفة قيادة العمليات لمواجهة الحدث الصدمة، فلنفرد الخرائط إذن ولنراجع تضاريس موازين القوى ومعايير القرارات ذات الأبعاد العالمية، ولنتأمل لنسجل معًا عدة ملاحظات:
الملاحظة الأولى: قاعدة التدافع ثابت بشري أكدّ عليه القرآن الكريم قال تعالى: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ)البقرة 251، وقال عزّ من قائل: (وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج: 40)، والتدافع قائم بين الأمم إلى قيام الساعة، يسميه البعض مؤامرة دولية، وآخرون عداوة وبغضاء، وغيرهم يسمونه صراعًا حضاريًّا، وما يعنينا أنَّ التدافع قائم ومستمر وفق موازين القوى الإقليمية والدولية، ومن تمام عمل خصمك أنْ يكيد لك ليدفعك بعيدًا عن ركب الحياة، والعمل على إفنائك، أو تحقيق تبعيتك الثقافية والسلوكية والعقدية له بالكامل، (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) (البقرة: 120)، (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً) (النساء: 89)، وفق قانون التدافع نحن لا نُسأل عما تحيكه لنا معسكرات الأعداء والخصوم والأغيار، وإنما نُسأل عما نقوم به داخل معسكرنا من تربية وتوجيه وإعداد وممارسة والأخذ بوسائل التفوق والسبق وكيف نصبح فعلًا، ومتى نصير رد فعل مكافئ لأفعال الأغيار الآخرين، نحن إذن مسؤولون عن أنفسنا لا عن خصومنا. فلا تحدّثني عن تآمر الأغيار وإنما حدثني عن قصور معسكرنا وآليات تداركه.
الثانية: ليس من تمام عمل الشعوب والمجتمعات المسلمة وأداء رسالتها تجاه قضايا المقدسات –والقدس في القلب منها- أنْ نُحمّل الأنظمة والحكومات المسؤولية والتقصير عبر كلمات ومظاهرات تدين الإدانة الباهتة، وتشجب الشجب الميت، ثم تمضي الشعوب إلى حياتها مرتاحة الضمير وقد أدت مسؤوليتها، فحكّام الدول المسلمة في أغلبيتهم لم تفرزهم ممارسة ديمقراطية حقيقية راسخة، ولم يخضعوا لقوانين التداول السلمي التنافسي للسلطة، وإنما أكثرهم حاكم متغلب عن طريق مركز قوة العائلة الحاكمة، أو مركز قوة المؤسسة الحاكمة (عسكرية-أمنية الجيش والشرطة، أو قوة مدنية الحزب الحاكم الكبير الذي يلقف الأحزاب الصغيرة ويبتلع دولاب الدولة العميقة)، ثمة شرخ قائم لا شك بين الشعوب والمجتمعات من جهة، وبين الأنظمة من جهة أخرى، أبرزته بوضوح ثورات الربيع العربي وما تلاها، فليس من المقبول أنْ تكون غاية احتجاجات الشعوب إسماع صوت الرفض لأنظمة محكوم على موقفها سلفًا بالرفض، هذا هزل تقتضيه تمثيلية توزيع الأدوار بين الشعوب والأنظمة لا ينبني عليه تغيير ولا يُرتجى منه فعل، غير أداء الدور على الوجه الأكمل في التمثيلية القديمة المكررة.
الثالثة: المجتمعات النابضة بالحياة تسعى لانتزاع حقوقها عبر مؤسسات المجتمع المدني، وفق صراع نضالي طويل لم تسمح به أنظمة الدول المتقدمة إلا بعد صراع مرير، وعلى مجتمعاتنا أنْ تخوض نضالها الواجب عليها لإنشاء وتفعيل دور مؤسسات المجتمع المدني لفرض فاعليات مكافئة للمناسبات التي تمس أمننا المجتمعي القومي (الثوابت والمقدسات مثالًا).
الرابعة: انكشاف خديعة خطة (الاثنين في واحد)، كاستغلال الأحزاب والحركات السياسية المعارضة –على تنوع أيديولوجياتها-هكذا مناسبات لتأجيج مشاعر الاحتجاج + تنامي حالة الغضب من أنظمة الحكم، يدرك الجميع الخطة الثنائية، الشعوب والأنظمة ويعملون على إفشالها، بل يجب التجرد لهدف واحد جامع دون غيره حين تُمس المقدسات، بلا مزايدة أو تصيد، في قضية المساس بوضعية القدس ليكن الشعار والهدف القدس، والقدس فقط بتجرد وإخلاص.
الخامسة: حاجة المجتمعات المسلمة لا سيما العربية منها إلى وجود جماعات ضغط بمفهومها الاجتماعي والثقافي والفكري –لا تتحول لاحقًا إلى أحزاب وحركات سياسية منافسة على السلطة حتى لا تفقد دورها في أتون الصراع السلطوي- هذه الجماعات أو اللوبيات وظيفتها الكبرى الحفاظ على ثوابت المجتمع واتجاهاته العليا الضابطة لفكر وحركة وسلوك المجتمع. حيث لوحظ فراغ في هذا الجانب خاصة في المجتمعات التي قادت حركة جماهيرها فترات طويلة مؤسسات العمل الشمولي، فحين خرجت تلك المؤسسات من المعادلة الاجتماعية كأثر مباشر للصراع على السلطة -سجن وهجرة وملاحقة-ضعفت حركة الجماهير ضعفًا ملحوظًا لغياب قادة الحراك وموجهيه، وتفخيخ أي حراك تلقائي للمجتمع مخافة استغلاله في الصراع السلطوي الإثني.
طريق جماعات الضغط-كما عموم مؤسسات المجتمع المدني- لن يكون مفروشًا بالورود، وإنما يحتاج كذلك إلى كفاح طويل مرير، يدفع المنادون بتأسيسها فاتورته مضاعفة دون الانزلاق لاحقًا إلى أدوار الزعماء السياسيين، فلكل هدفه ودوره ومنطقته.
السادسة: تكشف هذه المناسبات الصادمة عن عمق الهوة الكبيرة بيننا كمجتمعات مسلمة وبين مجتمعات الدول المتقدمة، إنَّ علينا عملًا مجتمعيًّا كبيرًا على مستوى الشعوب على كافة الأصعدة حتى نستحق ما استحقوا من حرية وكرامة وعدالة إنسانية، مع التأكيد على أنَّ الحريات لا تُمنح من نظام أو حاكم، وإنما تنتزعها الشعوب انتزاعًا عبر جهاد مؤسسي طويل، سَبقْنا فيه شعوب العالم دهرًا فكنَّا رواد فكرة الأوقاف والحسبة والعمل الأهلي، وسُبقنا فيه اليوم بمراحل كبيرة، لكنّنا قادرون على الملاحقة باستثمار تاريخ زاهر، ودراسة تجارب الآخرين دراسة دقيقة متعمقة، وقبل ذلك إرادة حقيقية على المواكبة.
السابعة: ترتيب أولويات العقل المسلم واجب آنيّ شديد الأهمية، الغضبة للمقدسات مشروعة ومندوحة ولا بد منها، غير أن الدماء المعصومة –على سبيل المثال- لا تقل حرمة –بل تزيد- عن المقدسات المكانية أو الزمانية، ونحن نصمت على إهدارها غير المشروع بالقتل العشوائي بلا محاكمات ولا ضمانات بأيدي بعضنا البعض لأتفه الذرائع، دون أن تكون لذات الشعوب وقفة حقيقية تدين إهراق الدم الحرام، فكما نُسب إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قولها تعقيبًا على مقتل أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه “واستحلوا بقتله الدم الحرام في الشهر الحرام في البلد الحرام”، فالحرمات كلها في الإسلام (الإنسان والمكان والزمان) مقدسات لا يجوز الاعتداء عليها بغير وجه حق، والغضب لها يجب أن يكون متساويًا، إنْ لم يزد في حالة استباحة الدماء المعصومة لورود آثار تدل على أنَّ عظمة حرمتها تفوق حرمة الكعبة المشرفة.
الثامنة: أنَّ أي نظرة متأنية للأحداث الآنية التي تفجع أمتنا في مقدساتها وشرفها وعزتها، لا تعني بحال من الأحوال كبح جماح العاطفة الجياشة، والحب الجارف، أو تُهوّن من أمر الهبة الشعبية على امتداد أرضين الأمة من أقصاها إلى أقصاها، فليعمل كل على شاكلته، وقدر جهده، وإنما المقصود الترشيد والتوجيه لتوليد طاقة إيمانية عملية مستدامة من الهبة الشعبية، في محاولة لاستمرارية الفعل وتعظيم أثره في إحداث التغيير النهضوي المنشود، فخير الأعمال أدومها وإنْ قل.
التاسعة: الأمل في الأمة باقٍ إلى يوم الدين، فلقد مرت عبر تاريخها بنكبات أشد وطأة مما نحن فيه، لكنها تنهض، فهي بحمد الله وعصمة الإيمان تمرض لكنها لا تموت، والأمل الواقعي المؤسس على عبر التاريخ وامتلاك مقومات مجابهة الواقع شيء غير الأحلام الهروبية، الأمل دافع للعمل والفعل المستمر المتراكم في غير تعجل مهلك، ودون تقاعس ناتج عن يأس مميت، فاليأس خيانة، قال الشاعر:
يا قدس إن طال اغتراب ومضى بنا عهد الشباب
إن لم أعد رغم الصعاب سيعود لي يوماً حفيدٌ
العاشرة: بؤرة ضوء نوسعها وننميها ونلتف حولها في إخلاص وتجرد، في مصر الأزهر على سبيل المثال اضطلع الأزهر بدوره عبر رسالة للمقاومة الفلسطينية أن تستمر على أن يكون الأزهر داعما لها بالعون والمساندة، فليتكاتف الشعب مع دعوة الأزهر ومن خلالها ندعوه لإنشاء صندوق معونات مادية وعينية وليكن شعاره لبيك يا أقصى، فمن جهز غازيا في سبيل الله فقد غزا، وما لا يُدرك جله لا يُترك كله، الدعم المعنوي والمادي من خلال مؤسسة عالمية التأثير لا تشتغل بالفعل السياسي ضمانة أكيدة لتوحيد الجهود ووصول الأمانات إلى أهلها.
اللهم إن ملاحظاتي جهد المقل الضعيف، وبضاعة العاجز، فنمها ببركتك واجعلها سببا لعمل دائم متراكم ولو قل. اللهم آمين.