أثار الفيديو الذي عرضته قناة “سي إن إن” الأمريكية حول ما قالت: إنه لمهاجرين أفارقة يتم بيعهم علناً في أسواق للرقيق في ليبيا العديد من ردود الفعل المتباينة؛ منها ما يشكك في مصداقية التقرير في الأساس كونه تم تصويره في ليبيا فعلاً أم في مكان آخر، ومنها ما اعتبره مجرد نوع من تخويف المهاجرين من موجات النزوح إلى أوروبا لما قد يتعرضون له من مخاطر من بينها أنهم قد يقعون فريسة في أيدي تجار البشر، وهناك نوع من الردود الذي ذهب إلى أن التقرير قد يكون صحيحاً وأن هذا النوع من التجارة يتم على الأراضي الليبية، لكن ليس بهذه الصورة الضخمة، كما أن من ذهبوا إلى هذا الطرح لم يتجاهلوا النبش عن الأسباب التي أدت إلى هذا الواقع البائس.
تقرير صادم
أظهر التقرير كيف يتم بيع المهاجرين الأفارقة في مزاد علني وفي ظل منافسة على السعر مع عرض مميزات للإنسان الذي تحول إلى سلعة تمتلك العديد من الميزات كقوة الجسد والتحمل، وهو ما يجعله مؤهلاً للعمل في المزارع أو الأعمال الشاقة، حتى إن شابين بيعا بمبلغ 1200 دينار ليبي.
إدانة مجتمع بأكمله
لكن حتى وإن صح التقرير، إلا أنه يعد ظالماً، إذ قدم صورة للمجتمع الليبي وكأن كل مواطنيه متورطون وضالعون في الإتجار بالبشر وأنهم تحولوا من شعب يمتلك رصيدا حضاريا وتاريخيا إلى تجار بالبشر وسماسرة في بيع الإنسان، وهذا بلا شك طرح غير موضوعي، فليس من الإنصاف إدانة مجتمع بأكمله باعتباره يمارس الرق والعبودية، بذنب مجموعة من أبنائه بل إن معظم الضالعين في هذه التجارة هي شبكات تتخطى حدود الدولة الواحدة وتمتد أياديها في الخارج، ففي نهاية الأمر هذه النشاطات لا تمثل الدولة الليبية وإنما تمثل جماعات وشبكات مصالح وعصابات لها امتداد وامتيازات خارج الدولة الليبية أكثر منها في الداخل الليبي.
النيجر تنفي
من بين ردود الفعل أصدرت سفارة النيجر في ليبيا بياناً نفت خلالها وجود رعايا نيجريين مطاردين في ليبيا أو يُباعون في أسواق لتجارة العبيد، أكدت فيه عدم معرفتها ببيع أي نيجري في أوساق ليبيا أو غيرها,
الهروب من الموت
التقرير وإن كان يكشف جانباً صادماً للواقع الذي آلت إليه ليبيا، لكنه يشير في الوقت ذاته إلى أهمية وضرورة البحث في الدوافع والأسباب التي أوصلتنا في النهاية لهذه النتيجة، فدول القارة السمراء، لا سيما شرق أفريقيا أو دول جنوب الصحراء، بسبب الحروب والنزاعات والاضطهاد السياسي والفقر، أصبحت بيئة طاردة للسكان بشكل مخيف، فبعد أن امتد الصراع لسنوات طويلة بين السودان وجنوبه، تحولت دولة الجنوب نفسها بعد الانفصال إلى ساحة حرب داخلية، كذلك في الصومال تفتك المجاعة بمواطني هذا البلد الفقير، في أفريقيا الوسطى الصراع الطائفي على أشده فميلشيا “أنتي بالكا” المسيحية تواصل هجماتها ضد المسلمين هناك وهدم مساجدهم ما يزيد من أعداد الفارين بأنفسهم هرباً من القتل، وغيرها من الدول الأفريقية.
غياب التنمية
بجانب العامل الأمني والنزاعات، يأتي العامل الاقتصادي الذي لا يقل أهمية عن سابقه، ففي أغلب الدول الأفريقية التنمية غائبة، سواء لأسباب تتعلق بالمستعمر الذي نهب ثروات البلاد، أو أسباب تتعلق بعدم وجود الإمكانيات وغياب القدرة على امتلاك التنمية الاقتصادية من خلال عدم الاستفادة من القدرات والإمكانات المتاحة تعود الدائرة هنا إلى غياب الاستقرار.
بحثاً عن حياة
وتبعاً لهذه الأسباب الرئيسة وغيرها من الدوافع والأسباب الفرعية، أصبحت هذه المنطقة من العالم طاردة لأعداد كبيرة من سكانها، والذين بدورهم يأملون في واقع أفضل وهو ما يضطرهم إلى تحمل مشاق الهجرة أو الهروب بحثا عن حياة أفضل كتلك التي يراها في أوروبا أو الغرب عموماً.
عمل مافيا
بالتواصل مع د. محمود عبدالعزيز، العضو السابق في المؤتمر الوطني الليبي، أوضح صراحة لمراسل “المجتمع” أن عمليات تهريب المهاجرين إلى أوروبا عبر ليبيا عمل عصابات منظمة وشبكات مافيا ممتدة في عدة دول، وذكر واقعة شهدها بنفسه، قائلاً: في عام 2015 تم اعتقال بعض الضالعين في عمليات تهريب اللاجئين عبر ليبيا، وكان وقتها حركة هجرة السوريين واسعة، وخلال التحقيقات مع من تم إلقاء القبض عليهم، توصلنا من خلال المعلومات التي حصلنا عليها منهم، إلى أن المهاجر بمجرد وصوله إلى السودان أو الجزائر، تتعهده مجموعة تابعة لشبكات التهريب من اليد إلى اليد سواء كان شخصاً أو عائلة، تتواصل هذه الشبكات فيما بينها حتى انتقال المهاجر سواء كان شخصاً أو عائلة، إلى ليبيا إلى لحظة وضع المهاجر في القارب تمهيداً لإبحاره باتجاه سواحل إيطاليا التي تبعد 300 كلم عن ليبيا.
تراجع رحلات العبور من ليبيا
في 23 نوفمبر 2017، أصدرت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، تقريرا حول عمليات الهجرة خلال الفصل الثالث من العام 2017، كشفت فيه تراجع عدد رحلات العبور من ليبيا إلى إيطاليا، حيث بلغ عدد الواصلين إلى إيطاليا عن طريق البحر بين يوليو وسبتمبر 21700 شخص وهو العدد الأدنى في الأعوام الأربعة الأخيرة.
وبحسب منظمة الهجرة الدولية، فقد وصل نحو 156 ألف مهاجر ولاجئ إلى أوروبا عبر البحر منذ يناير من العام الجاري، مقابل نحو 341 ألفاً وصلوا خلال الفترة ذاتها عام 2016، 73% منهم إلى إيطاليا، بينما حوالي 3000 شخص توفوا أو فقدوا أثناء محاولتهم العبور.
محطة ترانزيت
من الأمور المهمة التي يجب أن نشير إليها أيضاً، أن ليبيا في الأساس هي مجرد محطة “ترانزيت” خلال رحلة عبور المهاجرين إلى أوروبا الوجهة المستهدفة لهؤلاء المهاجرين، وليست دولة مصدّرة للهجرة، والإشارة إلى هذا الجانب وتسليط الضوء عليه، يكشف أن تحميل ليبيا تبعات هذه التجارة هو ظلم لها، فهي دولة وقع عليها الضرر أيضا فهي ضحية لهذه العمليات التي اتسعت على أراضيها، وليست جانية.
شيخ خفر
وهنا يتضح أن مشكلة أوروبا في مسألة المهاجرين واللاجئين ليست مع ليبيا كونها مجرد ترانزيت، وإنما المشكلة الحقيقية لها مع دول جنوب الصحراء التي كان أغلبها مستعمرات فرنسية في السابق.
والمشكلة الرئيسة في هذه الدول هي انتشار النزاعات وغياب التنمية الحقيقية التي تدفع المهاجر إلى المغامرة بروحه في عرض البحر، والمشكلة أن أوروبا تنأى بنفسها عن الدخول في مشكلات معقدة كالتنمية، وإنما هي تبحث فقط عن “شيخ خفر” يحرس سواحلها.
ووفقاً لـ د. محمود عبدالعزيز، فإن ليبيا كثيراً ما رفضت القيام بدور الحارس لسواحل أوروبا، رغم المحاولات والمساعي الأوروبية الحثيثة مع الحكومات المتعاقبة منذ حكم القذافي.
الطريق إلى الرق
انتعاش تجارة الرق ومضاعفة عصابات الإتجار في البشر نشاطاتها في ليبيا وعصابات التهريب، وتحويل هذه العصابات جزءا من أنشطة التهريب إلى أوروبا إلى تجارة الرق في داخل ليبيا، جاء نتيجة لعدة عوامل وأسباب متتابعة نجملها كالآتي:
الواقع المأزوم
تعيش الدولة الليبية واقعاً مأزوماً سياسياً واقتصادياً في ظل انهيار الدولة المركزية وغياب حكومة مركزية قوية بإمكانها السيطرة على كامل التراب الليبي، مع الصراع الذي تشهده البلاد منذ سقوط نظام الرئيس الراحل معمر القذافي، والنزاع بين حكومات تسيطر كل منها على منطقة وتتدعي لنفسها الحق والتوكيل الحصري كممثل عن الشعب الليبي، حتى عندما يتم الاتفاق على حكومة ومسار سياسي ما لا يكتمل تنفيذ أي اتفاق وبالتالي تستمر الحلقة المفرغة من النزاع، وفي ظل هذا الواقع المأزوم، فإن المواطن الليبي نفسه لا يكون أحسن حالا من المهاجرين.
بالإضافة إلى موقع ليبيا الإستراتيجي، ساهم الصراع وعدم الاستقرار في البلاد في خلق بيئة يزدهر فيها تهريب البشر والشبكات الإجرامية، كما أدى انهيار نظام العدالة والإفلات من العقاب إلى دفع العديد من الجماعات المسلحة والعصابات والأفراد إلى إساءة معاملة المهاجرين واستغلال.
التدخل العسكري الغربي
في سبتمبر 2016 انتقد تقرير للجنة الشؤون الخارجية في مجلس العموم البريطاني، التدخل العسكري الغربي والذي كانت الدول الثلاث “فرنسا، الولايات المتحدة، وبريطانيا” تشكل عموده الفقري، في ليبيا خلال عام 2011، وقال التقرير: إن التدخل العسكري لم يكن مدعوماً بإستراتيجية لتشكيل ليبيا ما بعد القذافي.
وهنا كانت النتيجة انهياراً سياسياً واقتصادياً، وتحول الأراضي الليبية إلى ساحة حرب بين مليشيات وقبائل وظهور عشرات الحركات المسلحة، وسيطرة “تنظيم الدولة” على بعض المناطق.
سياسة إعادة اللاجئين
مع تضاعف الأعداد في معدلات المهاجرين واللاجئين إلى أوروبا، اتجهت أوروبا إلى اتباع سياسة إعادة أعداد من اللاجئين وعقد اتفاقيات من شأنها وقف عمليات تهريب المهاجرين من ليبيا إلى أوروبا، كتلك التي أبرمتها مع تركيا من خلال منح الأخيرة امتيازات مالية وتسهيل دخول الأتراك دول الاتحاد الأوروبي مقابل وقف تركيا لموجات اللجوء.
صفقات مشبوهة
تقارير إعلامية تحدثت عن إبرام الحكومة الإيطالية “صفقات” مع مليشيات مسلحة خاصة في صبراتة، لوقف أنشطة تهريب اللاجئين، كما يُنسب لرئيس رابطة حقوق الإنسان في ليبيا، ألكسندر دي زواف، أن “أوروبا ضالعة في ما يجري في ليبيا، لأنها تبرم اتفاقيات مع ميليشيات من أجل طرد المهاجرين.
أرباح وفيرة
لا ننسى أن هذه التجارة سواء في بيع البشر أو تهريبهم تدر أرباحاً كبيرة على الشبكات القائمة على هذه الأنواع من العمليات والأطراف المتعاملة معها والمستفيدة منها.
تجارة الرق هي النتيجة
كل هذه الأسباب ساهمت مجتمعة في تحويل ليبيا من دولة “ترانزيت” إلى سوق للنخاسة، لكن ليبيا كغيرها من بلدان “الربيع العربي” التي تم تبديد أحلام مواطنيها بالحرية إلى كابوس من الصراع والاقتتال.