“الحضارة تَعُم والثقافة تَخُص”.. هذه العبارة هي بيت القصيد الذي سنحوم حوله في مقالنا لتصحيح مفهوم لم يلتبس على العامة فقط، بل ويردده أَعْلام (المثقفين) في بلادنا سواء عن جهل أو عن عمد.
وهل هناك فارق بين الحضارة والثقافة؟
نعم..
فالحضارة مادة، والثقافة روح .
الحضارة تُعَلِم، والثقافة تُنَوِر .
الحضارة هي اكتشاف الكون، والثقافة هي اكتشاف الذات .
الحضارة بنت العلم والاختراع والتقنية والنظم الإدارية .
والثقافة بنت الدين والفن والفلسفة والعادات والتقاليد والتاريخ والجغرافيا .
منتجات الثقافة: فن وسلوك وفلسفة ونظرة للحياة وما بعد الحياة…
منتجات الحضارة: مخترعات ومكتشفات وتقنية وعلوم …
الحضارة تَعُم، فليس هناك فارق بين مجتمع ومجتمع في قبول أو رفض سيارة أو ثلاجة.
الثقافة تَخُص؛ فمنظومة قيم قد تصلح لمجتمع ولا تصلح لآخر، وما يراه هذا المجتمع جميلا قد لا يراه غيره جميلا.. بل وتختلف من فرد لفرد آخر داخل أي مجتمع .
لذلك هناك علوم تطبيقية (تنتمي للحضارة) تصلح لكل المجتمعات، فالجبر لم يُسمَّ “جبرا إسلاميا” لأن مخترعه مسلم، والبنسلين لم يسمَّ “بنسلينا مسيحيا” لأن مخترعه مسيحي.
والأمر يختلف في العلوم الإنسانية (تنتمي للثقافة)، فهناك شريعة إسلامية وأخرى يهودية، وهناك قانون فرنسي وآخر بلجيكي …
(طبعا هناك قواسم مشتركة كثيرة تجمع بين الثقافة والحضارة لا يتسع المقال للخوض فيها ولكن وجب التنويه عنها).
وبناءً عليه: فليس معنى أن أستخدم نفس الثلاجة والسيارة التي يستخدمها الأمريكي أن أمارس نفس فلسفته في الحياة وأتقمص نفس ذوقه الفني وحسه الجمالي .
فأي مجتمع بشري ليس مطالبا بأن يأخذ من غيره سلة واحدة فيها الدين والفلسفة والفن وقواعد السلوك ومعها الغسالة والثلاجة والسيارة .!
وليس هناك مجتمع بشري يضع فيه مثقفوه مواطنيهم أمام هذا الخيار الساذج إلا في بلادنا المنكوبة بمثقفيها .!
وقد يكون مبلوعا بِغُصَّة أن يخاطبك جاهل بقوله: هل معنى النظام الإسلامي والدولة الإسلامية أن نتخلى عن السيارة الأمريكية ونخترع سيارة إسلامية؟!
أما الغُصَّة المؤلمة فهي أن تجد واحدا من المحسوبين كأَعلام للثقافة في بلادنا مثل “أحمد عبد المعطي حجازي” يكتب في جريدة الأهرام بتاريخ 22/11/2017 تحت عنوان “مارتن لوثر وخمسمائة عام” فيقول: “لقد ثار مارتن لوثر على الكنيسة الكاثوليكية؛ لأنها كانت تتاجر بالدين وتخلطه بالسياسة …، ولأنها كانت تحارب العلم وتصادر حرية التفكير والتعبير … ونحن نعرف ما صنعته الكنيسة الكاثوليكية مع كوبرنيك، ومع جاليليو، ومع جوردانو برونو وغيرهم .
وكما صنعت الكنيسة الكاثوليكية مع هؤلاء صنعنا نحن أيضا مع الحلاج، ومع السهروردى، وابن رشد، وابن عربي، ولا نزال نصنع مع حلفائهم من أمثال منصور فهمي، وعلى عبدالرازق، وطه حسين، وفرج فودة، ونجيب محفوظ، ونصر حامد أبوزيد، وإسلام بحيري” انتهى .
إذا سلمنا جدلا باضطهاد المسلمين لابن عربي والحلاج .. وحلفائهم حتى إسلام البحيري؛ فالمقارنة بين اضطهادهم واضطهاد جاليليو وأمثاله من علماء الطبيعيات لا يقول بها إلا مدلس أو جاهل.
مدلس يريد تضليل قرائه لعلمه بالفارق بين الثقافة والحضارة، والفارق بين العلوم التطبيقية البحتة والعلوم الإنسانية، أو جاهل لا يعلم الفرق بين هذه وتلك، وكلتا المصيبتان أعظم من الأخرى، إلا إذا اعتبرنا أن إسلام البحيري ونصر حامد أبو زيد من علماء الفلك والطبيعيات الذين حَرَمَنا المسلمون (المتعصبون) من علومهم التي كانت ستنقذنا من التخلف العلمي والتقني!
ولندرك نكبتنا بأدعياء الثقافة في بلادنا نقارن بين ما سبق نقله عن “أحمد” وما كتبه “صامويل هنتنجتون” في كتابه (صدام الحضارات) حيث وصف الصحوة الإسلامية بأنها “ليست رفضاً للحداثة، بل رفض للغرب وللثقافة العلمانية النسبية المتفسخة المرتبطة به، إنها إعلان استقلال ثقافي عن الغرب يقول بكبرياء: سنكون حديثين، ولكننا لن نكون أنتم” (ص 168).
للأسف: “صامويل” أصدق من “أحمد” فيما يعرضه لقرائه!