بعد أن تناولنا في من هذا الحوار، مع الشيخ أحمد العمري، رئيس هيئة علماء المسلمين بلبنان، قضية المسلمين الأولى؛ وهي قضية المسجد الأقصى في ذكرى إحراقه، ننتقل في الجزء الثاني إلى الداخل اللبناني، وما تمور به الساحة اللبنانية من أحداث وتقلبات نتيجة تأثرها بالحالة السورية، وأيضاً نتيجة التركيبة الداخلية للبنان ومكونات شعبه المتنوع الأعراق والملل، وهو ما عبر عنه الشيخ في حواره بـ»الفسيفساء الواسعة والمتنوعة».
نرجو أن تلقي الضوء على أوضاع لبنان الداخلية هذه الفترة.
– كما تعلمون، فلبنان بلد يتنعم منذ سنوات طوال بنسمات الحرية، ومبادئ الديمقراطية، تلك المبادئ جعلت منه الفسيفساء الواسعة والمتنوعة بكل طوائفه يعيش تحت عناوين السلم الأهلي والعيش المشترك، خاصة بعد الملمات والمصائب التي ألمت ببلدنا وحروب متعددة جاءت بنتائج وويلات وكوارث، ثم هيأ الله سبحانه وتعالى العقلاء في هذا البلد أن يسيروا في سياسة التعايش والحفاظ على المكونات الأساسية، فكان مؤتمر الطائف الذي كان للمملكة العربية السعودية اليد العليا -ومن ورائها دول الخليج- في نجاحه، وكان يومها الرئيس رفيق الحريري، رحمه الله، موجوداً، وكانت له مساهمات جوهرية في تقريب وجهات النظر بين كل الطوائف اللبنانية.
وبعد مؤتمر الطائف، سارت الأمور إلى حد كبير في سياسة الإعمار، وبالفعل تم البدء حينها في إعمار كل مناطق لبنان، وأعيدت مؤسسات البلد ومقوماته الأساسية، وكان الداعم الأكبر في عمليات الإعمار دول الخليج، ولا ننسى الدور الكبير الذي قامت به دولة الكويت في هذا الشأن، التي كانت تقدم الدعم الثري الكبير على مستوى الدولة، وكذلك على مستوى المؤسسات، والجمعيات الخيرية والأفراد المدنيين.
فلم نجد من دول الخليج الشقيقة إلا ذلك الاحتضان الكبير، والدعم الثري لهذا البلد.
لكن مما يؤسف له أنه بعد ما سمي بـ”ثورات الربيع العربي”، حدث أن قامت في سورية كغيرها من الدول ثورة؛ حيث طالب الناس بالحرية والكرامة والعدل ونيل حقوقهم، لكن النظام السوري مارس على مدى سنوات وعقود طويلة سياسة الاستعلاء والاستكبار والإقصاء وإلغاء الآخرين؛ لذا فالشعب السوري لم يتحمل المزيد من التعسف والظلم كغيره من الشعوب، وطالب بشيء من الديمقراطية، وكلنا يعلم أن أول من طالب بالديمقراطية كان أطفال درعا، فهم من أطلق هذه الشرارة، ولكن بكل أسف قابل النظام تلك المطالبات العادلة بسياسة القمع والإجرام وارتكاب المجازر.
هذه الحالة كانت لها تداعياتها على الساحة اللبنانية، فبالرغم من أن الحكومة اللبنانية أخذت قرار النأي بالنفس، فإن هناك فريقاً في هذا البلد لم يحترم هذا القرار، وأقحم نفسه، وتدخل بكل ما يملك من قوة عسكرية واقتصادية واجتماعية، ودخل في الأراضي السورية كطرف، وكان الأولى والأفضل عقلياً أن يحافظ على استقلالية لبنان بالعنوان الذي هو شريك فيه، فنحن نعلم أن “حزب الله” شريك في الحكومة اللبنانية؛ فلماذا لم يحترم القرار الذي أخذته الحكومة اللبنانية، وهو سياسة النأي بالنفس؟
بكل أسف ضرب بهذا القرار عرض الحائط تنفيذاً لأجندة نحن نعلم في النهاية أنها صادرة عن إيران كونها هي التي تصدر القرارات الأساسية الموجَّهة لـ”حزب الله”، وكذلك للنظام السوري سلطة وقرار وتحكم في “حزب الله”.
كل هذا أدى إلى حالة نزوح كبيرة من الإخوة السوريين إلى الأراضي اللبنانية، حيث وصل عدد النازحين إلى لبنان قرابة مليوني سوري، رغم أن لبنان دولة صغيرة، على حين دولة مثل تركيا تحتضن الآن ما يقارب 5 ملايين سوري، حسب الإحصاءات الأخيرة، ودولة بحجم تركيا المترامية الأطراف ومساحتها الشاسعة، تستطيع استيعاب المزيد من اللاجئين السوريين عكس لبنان الدولة الصغيرة مساحةً، وشعبها لا يتعدى 4 ملايين نسمة، فتخيّل كيف يتحمل لبنان هذا العبء؟ فلم تستطع الحكومة اللبنانية أن تخدم هؤلاء اللاجئين لا صحياً ولا اقتصادياً ولا أخلاقياً؛ لأنها عاجزة عن ذلك تماماً، وهذا الأمر أصبحت مسؤوليته تقع على الجمعيات الخيرية، التي تقوم بتقديم المساعدات للاجئين ما أمكنها ذلك؛ حيث تقوم بتقدم الخدمات الثقافية والتعليمية والاجتماعية والمالية وغيرها من الأمور، وإلا لو ترك الأمر بدون تقديم تلك المعونات لحدث احتقان كبير، وتفجير في الساحة اللبنانية، لولا قيام تلك الجمعيات الخيرية بواجبها.
ولا يسعني في هذا المقام إلا أن أشكر دولة الكويت التي حضرنا فيها مؤتمر المانحين الأول والثاني والثالث، ورأينا أن هناك دعماً مفتوحاً للاجئين السوريين، في المخيمات والمدارس، وكذلك بقية دول الخليج العربي كانت تقوم بهذا الواجب، ولكن منذ عامين بدأنا نستشعر أن الدعم بدأ في التناقص.
برأيك، هل الطائفة السُّنية في لبنان مستهدفة؟
– نعم، مستهدفة لأبعد الحدود، فقد استهدفت في قيادتها السياسية، وذلك من خلال اغتيال كبار قياداتها السياسيين أمثال رشيد كرامي، ورفيق الحريري، ومن القادة الدينيين المفتي حسن خالد، ومحاولة اغتيال القاضي الشيخ أحمد عساف، وعلى مستوى القيادات الأمنية سامي الحسن، وكذلك تعرض للاغتيال قيادات سُنية إعلامية وغيرها من القيادات، كما أن هذا الاستهداف ليس موجهاً للقيادات السُّنية فقط، بل لكل من يعارض النظام السوري أو الإيراني يتم استهدافه بالتهديد والقتل، وهذا أدى إلى استباحة بيروت نفسها في 7 مارس؛ لأن دولة الرئيس فؤاد السنيورة أخذ قراراً بإقالة ضابط في المطار، لأنه محسوب على طائفة لها سندها وظهيرها، وتحدوا قرار الإقالة ولم يقبلوا به.
هل نستطيع القول: إن الساحة اللبنانية ملعب للمخابرات الأجنبية؟
– نعم بالفعل، فتصفية الحسابات الدولية بكل أسف تتم في لبنان؛ فروسيا لها تصفية حسابات، وكذلك سورية، وأوروبا -خاصة فرنسا- وغيرها الكثير والكثير من الدول.
وإيران؟
– إيران لها الذراع الكبرى في تصفية الحسابات؛ فعملية الفساد والإفساد على الساحة اللبنانية هي التي تعطل مشروع التوازن، لأنها تريد الهيمنة على لبنان، بعد أن فرضت الهيمنة على كل من سورية والعراق، تريد أن تفرض الهيمنة على الساحة اللبنانية.
تصريح سليماني بالقول: إنهم يملكون 4 عواصم عربية، هل كان يعي ما يقول؟
– نعم بالفعل، وتلك قراءة واقعية على الساحة، وأعتقد أنه في لبنان الأمر مختلف، فهم لهم اليد العسكرية الكبرى فيها، وربما أكبر من إمكانيات الدولة اللبنانية نفسها، ولكن الدولة اللبنانية حينما ترى منهم اعوجاجاً، وتريد أن تحاسب واحداً ممن ينتمي إلى «حزب الله» أو أنصاره، يفعل ما يريد، باختراقات أمنية واختراقات سياسية، أما عندما يكون هناك طرف آخر من السُّنة مثلاً، فإن الأمر في التعامل معه يختلف تماماً.
فلو تم القبض على سُني يحمل سكيناً؛ فإنه يتم تصنيفه على أنه إرهابي أو “داعشي”، وتقوم الدنيا ولا تقعد، فـ”طربوش” الإرهاب تم تفصيله خصيصاً للسُّنة في لبنان!
هل لبنان بحاجة إلى مؤتمر «طائف» جديد؟
– أنا أعتقد أنه ينبغي فعل ذلك، وإن كانت بعض القوى تريد اتفاقية جديدة سواء في الطائف أو في مدينة أخرى غير الطائف، لأنهم يريدون فرض معادلة جديدة، بعد أن حققوا مكاسب سياسية وعسكرية وأمنية، وهذا الأمر لن يكون على الساحة اللبنانية، فلبنان لا يمكن له أن يستمر إلا في حالة أن يعطي كل ذي حق حقه، ولكل طائفة حقها، مهما كانت هذه الطائفة، فهناك عيش بين المسلمين والمسيحيين، وهذا التقاسم المشترك في عيش عمره يزيد على 70 سنة.
وبعد هذا الزمن المديد، هناك من يطرح فكرة المثالثة، وفحواها الطائفة السُّنية الثلث، والشيعية الثلث، ويختلط معهم الدروز والعلويون، والثلث الأخير للمسيحيين بكل طوائفهم، وهذا أمر لا تقبل به فرنسا مطلقاً، بل تقبل بالمناصفة، وحتى أهل السُّنة لا يقبلون إلا بالمناصفة، فنحن قبلنا بالتوزيعات السياسية؛ فرئاسة الجمهورية وقيادة الجيش قبلنا بأن تكون للمسيحيين، ورئاسة الحكومة من نصيب السُّنة، ورئاسة مجلس النواب للشيعة، وبعد ذلك تأتي تقسيمات الحقائب الوزارية، هناك نصيب للدروز ونصيب للأرثوذكس والروم، وهذا هو وضع البلد، ولا تستطيع إلا أن تعيش بهذه الصورة، أما فكرة استقواء طائفة على طائفة أخرى فهذا سيؤدي بالبلد إلى فتن لا تتوقف.
– هل هناك تعايش طبيعي بين الشعب اللبناني، أم يوجد احتقان بين الناس أنفسهم، بعد حرب استمرت من عام 1976م إلى مؤتمر الطائف الذي على إثره توقفت الحرب الأهلية؟
– لا شك أنه كان هناك احتقان كبير بسبب الحرب، فبعد مؤتمر الطائف وبعد عمليات الصلح والمصالحة غُرس في الشعب اللبناني ثقافة المحبة والمودة والتعايش السلمي والتراحم من أجل الحياة المشتركة، فلم يعد هناك ما يدعو إلى أن نحمل السلاح على بعض، وهذا أرخى بظلاله من عام 1989 تقريباً إلى عام 2005م، أكثر من 16 سنة في ظل ثقافة الوئام والمحبة، حدث فيه تبادل زيارات وتطور في البرامج التربوية حيث التقاسم والاشتراك، ولكن بعد اغتيال رفيق الحريري عام 2005م عادت الأمور إلى نقطة الصفر كما يقولون، وحينها لم يكن لأهل السُّنة رد فعل اعتباطي، إنما طالبوا بشيء واحد وهو خروج القوات السورية والنظام السوري من لبنان، لأننا نعتقد أن وراء عملية الاغتيال سواء كان مباشراً أو غير مباشر هو النظام السوري.
هل نستطيع تسميته بالاحتلال السوري؟
– طبعاً؛ لأن النظام السوري بمخابراته كان يهيمن على كل مفاصل الدولة، إلى درجة أننا كنا نقول بالعامية: «إذا أراد أحد الناس توظيف زبال لا بد أن يأتي بواسطة من ضابط في المخابرات السورية»! المستوى اللبناني وصل إلى هذا الوضع، لذلك اعتبرت الطائفة السُّنية نفسها أكثر طائفة تم ضربها من النظام السوري، فالمخيمات الفلسطينية ضربها النظام السوري، وهم من أهل السُّنة، وكذلك قام بضرب مدينة طرابلس وهي سُنية بحتة، ومن أجلى مخيم تل الزعتر وقضى عليه قضاء مبرماً كان النظام السوري، والذي تسبب في الاقتتال الطائفي الجديد بين المسيحيين والدروز هو النظام السوري، والذي أشعل حرب المخيمات هو النظام السوري، وكانت بين حركة أمل والفلسطينيين، والآن نسمع أن هناك من يطالب بإعادة التطبيع مع النظام السوري الذي هذا شأنه مع لبنان، وهو العمل على تغذية النعرات الطائفية والدينية والعمل على إشعال أوارها من جديد.
إعادة تأهيل النظام السوري مقبول لديكم كطائفة سُنية؟
– أبداً، فأي عاقل في الطائفة السُّنية لا يقبل بمن قتل القادة السُّنة السياسيين والأمنيين والإعلاميين ومن يعملون في سلك القضاء والدينيين، ليس من الطائفة السُّنية فقط، بل القتل طال الطوائف الأخرى التي تعارضه، فعلى سبيل المثال؛ كمال جنبلاط، زعيم الدروز، الذي قام باغتياله هو النظام السوري، كذلك طال القتل القادة المسيحيين، حتى الشيعة أنفسهم لم يسلموا من سياسة الاغتيال لقادتهم من جانب النظام السوري، فأنا لا أستثني أحداً ممن طالتهم يد النظام السوري، لأن هذا النظام يتبع سياسة الهيمنة والاستكبار الذي من شأنه لا يقبل بالمعارضة حتى لو كان بالكلام فقط، فهو فقط يتبع سياسة القتل والقمع والاغتيال.