بكل تأكيد، هذا العالم مثقل بالأحزان التي غطت جميع جوانبه، لست معنياً بكل هذا، فلدي هوايتي المفضلة؛ أن أرتشف قطرات الشاي وأحياناً أطالع وجوه المارين من أسفل نافذة حجرتي المنزوية في تلك البناية القديمة التي تزكم رائحة الرطوبة الخارجة -من بين شقوق جدرها- أنفي، أعايش الخيال كل ليلة، فلدي ما أفعله سخرية من الكتاب العظام؛ الطيب صالح صار أليفاً، وكذلك لطه حسين عين، أضرب بعنف على كتابات العقاد، لقد كانوا بلهاء.
يأتي من التلفاز صوت طفل يبكي أعضاءه المتناثرة، لا ضير فبيكاسو رسم “الجيوكندا” وهي أشد غرابة من واقعنا، إنه الجنون أن أترك هوايتي في مطالعة وجوه الحسناوات، هذا مثير للدهشة؛ غير معقول أن أتحول إلى ذلك الذي تخلصت منه منذ عشرين عاماً، لقد كنت مصاباً بهذا الداء، أن أكون إنساناً، ولم أنا دون الآخرين؟
إحساس غريب بالتفاهة يتخلل جسدي، شعور بالغثيان يتملكني، لا ضير كل المحيطين بي عراة، يشاهدون التلفاز بل يقضون أوقاتهم في لا شيء، يطيرون أوهامهم المصنوعة من السراب ومن ثم يمسكونها بخيوط العنكبوت.
ما أكثر الذين خدعوني وها هم الآن يمتطون النساء مثل الجياد، أحدهم كان يسود الدنيا في وجهي كلما أسررت له بغريزة الحمق التي تقهرني؛ أن تكون لي أنثى واحدة أما هو فلديه معجبات وإن كن يخفين أحمر الشفاة بعيداً لأجل مولانا قصير الثوب طويل اللحية، الآن أبصق على ظل صورته في واجهة المحال التي تبيع أعواد السواك، وحبة البركة التي تزايد على فحولة الثيران.
إنه الغثيان يرغمني أن أخرج عارياً من تلك الثياب التي ارتديتها يوماً، سيقولون عني كلمات: معتوه، مجنون، خطير، لكنهم بكل تأكيد لن يقولوا مفكر، ههههه.. لا يهم، فالجنون عبقرية، هكذا درسوا لنا في الجامعة التي صارت مثل بيت العرس الذي خلا من الزينة ساعة أن جاء الشتاء بريحه.
انظر: لقد غدت الأبقار بأجنحة، إنها تتراقص في السماء تلقي بروثها حمماً من كتل نيران، لكنها تقدم حليباً لأطفال العالم المساكين -تقول هذا المذيعة البلهاء على شاشة “بي بي سي”- يفعل القيصر يضاجع لبؤة الأسد، في بلاد كانت تعبق بالياسمين شعراً وشدواً، مات خالد، احترق باب الحارة يا نيرون، لكنه يحتفظ دائماً بحق الرد!
ألم أقل لكم: إنني مجنون؟
في مرة دنوت من مقام الشيخ ذي اللحية الطويلة والجلباب القصير، سمعته يسبح بحمد مولاه، بالطبع لم يكن ذا الجلال، بل ذلك الذي وهبه فاتنات ذوات شعور منسرحة وخصور تميس دلالاً، لا حاجة به إلى السماء، ففي الليالي الحمراء عوض الجنة ذات الأنهار السبعة.
تناثرت الحبال المدلاة من أذني قرطاً، بانت سوءتي، وحدها جاءت من بعيد تحمل غطاء رأسها بين يديها، دثرتني به، إنها من تحنو علي، رغم تخاريفي تراني طفلها الذي حملته وهنا وها أنا أتعبها شروداً وضياعاً، ليت لي حسناء ممن رزقهن الشيخ المزبب، ساعتها سينقطع حبلي السري، سأكون أحد السكارى في كؤوس الطلا حين تلامس شفتيها.
أعمدة الإنارة تكلمني.. تضاحكني في وقار، إنها تأخذ بيدي تشير إلي أن ثمة مكاناً يسكن فيه رسام.