التراث حصاد الأمم، وحصيلة نشاطها الحضاري، وقياس واضح لكليات أفكارها ومبادئها، ومؤشر لتطور حركتها، وتعامل الأمم مع ذلك التراث مؤشر لوعيها ونضجها الفكري وحالتها الحضارية، وتراث أمتنا هو حصيلة جهد ونشاط استمر لما يقرب من عشرة قرون، وهو عنوان لطبيعة هذه الحركة وكاشف لمبادئها وأفكارها (الإلهي منها وغير الإلهي) من خلال الفهم البشري وساحة الزمان والمكان؛ فمعادلة التراث الإسلامي هي: وحي + تلقٍّ (اجتهاد) متعدد المشارب (الأمة) + الزمن (عشرة قرون تقريباً) + المكان (جغرافيا متعددة خطوط الطول والعرض) = التراث الإسلامي.
وفي هذه المقالة نتناول جانباً من تطور علاقة الأمة بالتراث وآفاق ذلك التعامل المنشودة في القرن الحالي.
اصطدمت الأمة في العصر الحديث بالحضارة الغربية، وكانت صدمة عنيفة، ليس لما اكتنفها من صدام عسكري مادي فقط، ولكن أيضاً لما حققته هذه الصدمة من انكشاف العالم الإسلامي على ذاته، والتعرف على حقيقة تراجعه على سلم الحضارة.
والاستشراق إحدى أهم أدوات الاستعمار الغربي الذي تصدى لعالم أفكار المسلمين، وجعل من التراث موضوعاً للبحث والتنقيب والكشف والإظهار والإعلان، إلا أن أغلب المستشرقين لم يتعاملوا مع التراث بروح موضوعية أو علمية، بل استخدموا أدواتهم العلمية وهم مشحونون وجدانياً بميراث الحروب الصليبية (1096 – 1291م) المحملة بوجدان العداء ناحية العالم الإسلامي، كما أن اعتبارهم أداة لخدمة الاستعمار مكن أيضاً لهذه القيمة السلبية، إلا أنه في الوقت ذاته لا يمكن إنكار دورهم في استفزاز المسلمين ناحية تراثهم الذي انقطعوا عنه لعوامل عديدة.
تمثل موقف المسلمين الأول ناحية التراث في مسارين؛ الأول: الانشغال بالردود على الطعن في التراث ومصادره لا سيما المرجعيات الأساسية (القرآن والسُّنة) التي أولاها المستشرقون أهمية كبيرة في الطعن والتفكيك، ولعل أول هذه الردود كانت عند محمد عبده (1849 – 1905م) في الرد على حالتي أرنست رينان (1832 – 1892)(1)، وجابرييل هانوتو (1853 – 1944م)(2)، ثم مصطفى الغلاييني (1886 – 1944م) في الرد على طعون اللورد «كرومر» (1841 – 1917م)(3).
أما المسار الثاني، فتمثل في مشروع رفاعة الطهطاوي لإحياء التراث -هذا المشروع الذي رافق ترجمته لعدد من الكتب الأجنبية في الفلسفة والتاريخ- حيث ساهم في طباعة عدد من كتب التراث لم تكن متوافرة آنذاك، منها: تفسير القرآن للفخر الرازي المعروف بـ«مفاتيح الغيب»، «معاهد التنصيص على شواهد التلخيص في البلاغة»، «خزانة الأدب» للبغدادي، «مقامات الحريري»، وغيرها من الكتب، وكان لديه مشروع طموح في التراث لم يكتمل.
ثم كان محمد عبده الذي قام بتحقيق بعض كتب التراث وأعدها للطباعة، مثل «فتوح الشام» للواقدي الذي طرح في مقدمته منهجية تاريخية للتعرف على حقيقة الوثائق وحقيقة نسبتها إلى مؤلفها والعصر الذي تنتمي إليه، كما أسس محمد عبده جمعية لإحياء التراث (1900م)، أخرجت كتب «دلائل الإعجاز»، «أسرار البلاغة» للجرجاني، معجم «المخصص» لابن سيده، «المدونة» للإمام مالك.
تيار الإصلاح المعرفي
وفي تطور لهذه العناية ظهر في الثلث الأخير من القرن العشرين تيار إصلاحي بدأ بطرح أسئلة أكثر عقلانية نحو التراث، يتجاوز مجرد الدفاع عنه، ويسعى إلى البحث عن تحديدات معرفية، مثل: ما التراث؟ وما دوره في حالة الأمة المعاصرة؟ وكيف نتعامل معه؟
اهتم هذا الاتجاه الفكري بالفعل الإصلاحي المعرفي للتراث في واقع الأمة، ومن ثم كان عليه أن يقدم موقفه بين نقيضي الثقافة الإسلامية؛ التغريبيون الذين يرون في التراث عائقاً للحداثة والتقدم، والتقليديون الذين يرون أن التراث هو الوجه الوحيد للإسلام وللمسلمين وأن تجاوزه هو تجاوز العقيدة والإسلام.
في ضوء ذلك، كان أبرز ما اهتم به هذا الاتجاه هو التحديد المفاهيمي للتراث، الذي يفصل بين التراث كفعل بشري اجتهادي موقوت بالزمان والمكان وحالة الإنسان الفاعل له، ومكونات الإسلام العقدية الرئيسة (القرآن والسُّنة)، والفصل بينهما حين التناول المنهجي والعلمي؛ فالتراث لا يطابق الإسلام.
ومن رواد هذا الاتجاه محمد الغزالي الذي طرح سفره الرائد “تراثنا الفكري في ميزان الشرع والعقل”، الذي دعا فيه إلى التحرر العقلي في النظر إلى التراث، وكان الكتاب موجهاً بصفة رئيسة إلى أصحاب النظرة الأحادية للتراث التي لا تراه إلا مساوياً للوحي في قيمته وأحكامه، وفي ضوء ذلك صنف التراث إلى قسمين:
الأول: ذلك التراث الذي ارتبط مباشرة بالمسائل الشرعية، مثل التراث الفقهي والمسائل والأحكام الفقهية.
والثاني: التراث الذي أدى فيه العقل البشرى المسلم الدور الأساس في تأسيسه وتكوينه، مثل التراث الفلسفي والآراء والأفكار الفلسفية، وأكد أن الحكم على موروثنا الثقافي ينبني على أساسين عظيمين في الإسلام وفي تكويننا الحضاري، وهما: الشرع والعقل(4).
تطوير مفهوم إحياء التراث
اقتصر مفهوم «إحياء التراث» على معنى بسيط وأولي؛ وهو إعادة نشر المخطوطات والكتب ووضعها في متناول الأفراد بهدف نشر نمط معين من الثقافة في فترة زمنية ما، أو في محاولة للتعريف بالإنتاج الفكري أو العلمي في الحضارة الإسلامية، ويطرح حامد ربيع (1924 – 1989م) رؤيته المنهجية حول تطوير فكرة «إحياء التراث» باعتباره مفهوماً يحمل في باطنه معاني متعددة تحتاجها الأمة في مسيرها الحضاري، ويرى أن عملية إحياء التراث تمثل «القدرة على دفع حركة التجديد الإسلامي، بمعنى الانطلاق الفكري للتراث في عملية التجديد الكلية الشاملة التي تسمح بخلق القدرة على المواجهة من منطلق البناء العصري والتجديد الذاتي، والكشف عن الهوية، على أن يتم ذلك في إطار من التعاليم الإسلامية كمرحلة من مراحل التطور، والتعبير عن قانون التكاثر والتوالد، بما يفضي إلى تكامل القدرات الفكرية الخلاقة للتراث القادرة على أن ترتفع عن مستوى النسبية من حيث الزمان والمكان، وأن تتحرر في إطار تنظيري يسمح باستيعاب الخبرات، وتقديم النموذج التجريبي والواقعي للتعامل مع الحقيقة الحضارية بلغة المشكلات التي يعيشها العالم الإسلامي»(5).
وقد ظهرت دراسات عديدة استلهمت هذه الرؤية المنهجية، في طرح منهجية: توظيف التراث لمعالجة مشكلات الأمة الواقعة من خلال النظر والتأمل في القواعد والمنهجيات في الخبرة الحضارية الإسلامية، وكذلك محاولات التنظير للبحث في بناء علوم إسلامية من منظور معاصر يتصل بما تم تأسيسه على متصل التراث من ناحية ومستجدات العلوم في العصر الحالي من ناحية أخرى، وهي محاولات جادة شهدتها رسائل علمية وبحوث وكتابات تؤسس للمنظور الحضاري المرتكز على التراث كأحد مصادره، ويمكن أن نلحظ ذلك في دوريات محكمة اهتمت بهذا الطرح(6)، وكذلك كتابات فكرية متعددة.
تجديد التعامل مع التراث
إن الجهد المنتظر من الأمة لتجديد آفاق تعاملها مع التراث، وحتى يتحول لقوة مركزية في النهضة، هو أن توجه تلك الجهود إلى عدة اعتبارات في التعامل مع التراث، هي:
– المصلحة الحضارية؛ بمعنى البحث في التراث عن واقع احتياج الأمة إليه، واستدعاء استجابة هذه الحاجة، وكل ما يمكن أن يلبيها في ذلك الواقع، فليس كل ما هو موجود في التراث تحتاجه الأمة ويحتاجه واقعها.
– التوظيف المنهاجي؛ ليست الأمة في حاجة في كثير من واقعها إلى تفصيلات التراث، ولكنها في حاجة ملحة إلى قواعده وكلياته التي تعامل بها مع الأحداث والوقائع والإشكالات، وهذا ما يجب الالتفات إليه وتجديد النظر فيه.
– بناء خارطة معرفية للباحثين والدارسين بمتطلبات البحث في التراث وفقاً للعاملين السابقين، بحيث تتضمن هذه الخارطة مسارات العمل المقترحة، وبيان دورها في سد ثغرات واقع الأمة.
– المنحى المؤسسي؛ حيث إن الجهود الفردية على أهميتها، فإنها لا تجدي نفعاً على المدى الإستراتيجي للأمة، بل إن هذه الجهود لو لم تكن هناك مؤسسات قائمة للمحافظة عليها وإتاحتها للأمة فسوف تتعرض للإهمال والضياع، لذلك فإن التراث في الأمة يجب أن يقوم عليه مؤسسات مستقلة في بنيتها المعرفية والمالية عن توجهات النظم السياسية، وتعقيدات البيروقراطية، تنتخب العلماء -بصورة موضوعية- القادرين على وضع الخطط ومتابعتها والإسهام في تحقيق الاستفادة والتوظيف للتراث الإسلامي وإدماجه في حركتها التجديدية بصورة عضوية منسجمة مع باقي كيانها المعاصر.
_____________________
(1) كاتب ومستشرق فرنسي.
(2) مؤرخ ودبلوماسي فرنسي.
(3) إداري استعماري إنجليزي.
(4) انظر: محمد الغزالي: تراثنا الفكري في ميزان الشرع والعقل، القاهرة، دار الشروق، 1996.
(5) حامد ربيع: مدخل في التراث السياسي الإسلامي، تحرير وتعليق: سيف الدين عبدالفتاح، حـ2، القاهرة، دار الشروق، 2001، ص270.
(6) انظر على سبيل المثال دوريات: المسلم المعاصر، وإسلامية المعرفة قضايا إسلامية معاصرة.