تميزت الموجة الأولى من الربيع العربي بإطلاق حق الشعوب في اختيار نظامها السياسي ومرشحيها للرئاسة والبرلمان وهويتها عبر انتخابات حرة، لهذا جاءت أول وآخر انتخابات حرة في مصر بفوز كبير للتيار الإسلامي، وتولي الرئاسة والبرلمان مرشح إسلامي ونصت أول وثيقة دستورية ثم الدستور على الشريعة الإسلامية.
بيد أن إرهاصات الموجة الثانية من الربيع العربي، في السودان خصوصاً، توشك أن تأتي بعكس نتائج الموجة الأولى التي أجهضتها الانقلابات والثورة المضادة والتدخلات الخارجية، بعدما توافق من اعتلوا ثورة الشعب السوداني من القوى اليسارية والعلمانية منصة التفاوض مع المجلس العسكري واتفقوا على إقصاء الإسلاميين ومعهم الشريعة الإسلامية.
فقد جاءت “الوثيقة الدستورية” التي وقع عليها المجلس العسكري، مع القوى اليسارية والعلمانية التي تقود حراك السودان الحالي بدون النص على الشريعة الإسلامية لأول مرة في تاريخ البلاد.
وتعمدت الوثيقة التي جري التوقيع عليها 4 أغسطس 2019م (التوقيع النهائي في الـ 17 من الشهر الجاري) إسقاط الشريعة وعدم تحديد مصدر التشريع، أو النص على العربية كلغة رسمية للبلاد، وحددت الفترة الانتقالية بثلاث سنوات ما يعني سيطرة قوي لم ينتخبها الشعب السوداني ومختارة من اليساريين بعد إقصاء الإسلاميين لحكم البلاد.
ثم جرى إقصاء الشريعة الإسلامية نفسها بدعوى أنها خيار النظام السابق، برغم أن الإسلاميين في السودان ابتعدوا عن نظام البشير منذ سنوات، رغم مزاعم قادة تيار الحرية والتغيير اليساريين إن المرحلة القادمة “ستشهد إتمام المصالحة وإنهاء نهج الإقصاء في السودان”.
العسكر أيدوا إقصاء الشريعة
كان لافتا أن جنرالات المجلس العسكري الحالي الذين تدعمهم دول الثورة المضادة، قد أيدوا إقصاء الشريعة عن السودان ووقعوا على الاتفاق كما كتبه اليساريون، ولكنهم حاولوا عبر تمثيلية متقنة الإيحاء بأنهم مع الشريعة.
ففي مايو الماضي وفي خضم الحديث عن التفاوض حول الوثيقة الدستورية، خرج المجلس العسكري الحاكم في السودان يتهم “قوى الحرية والتغيير” بأنها “أغفلت الشريعة الإسلامية مصدرًا للتشريع في وثيقتها الدستورية”.
حيث اتهم المتحدث باسم المجلس العسكري، الفريق الركن شمس الدين كباشي قادة الاحتجاج، في مؤتمر صحفي، بإقصاء الشريعة مؤكدا “أنه يجب أن تبقى الشريعة الإسلامية مصدرا للتشريع، آخذاً على قوى إعلان الحرية والتغيير إغفالها مصادر التشريع في الاقتراحات التي قدّمتها بشأن المرحلة الانتقالية المقترحة.
وأضاف أنّ “الوثيقة الدستورية لقوى إعلان الحرية والتغيير أغفلت مصادر التشريع، ويرى المجلس أن تكون الشريعة الإسلامية والأعراف مصدرا له”، ومع هذا وافق المجلس العسكري على الوثيقة وعلى إقصاء الشريعة منها!!
إسقاط هوية الشعب الإسلامية
ظلت قوى الاستعمار وقوى علمانية ويسارية سودانية تعادي الشريعة الإسلامية، تطالب بتمييع هوية السودان والمطالبة بإغفال الشريعة من دستوره خلال حكم الرئيس السابق البشير، وكان إبعاد الشريعة هو أحد مطالب الحركة الشعبية الجنوبية (حركة قرنق) خلال مفاوضات واستفتاء الانفصال.
وتصور سودانيون أن يؤدي انفصال دولة الجنوب إلى تمكين الشريعة الإسلامية في بلادهم بعدما انفصل الجنوبيون بدولتهم، إلا أن دعوات إبعاد وإقصاء الشريعة استمرت ولكن ظل نظام البشير محافظاً علي وضع الشريعة في الدستور.
الآن بعد الثورة علي البشير وانقلاب جنرالات الجيش وسيطرتهم على الحكم بدأت خطط التخلي عن الشريعة تدريجياً عبر الوثيقة الدستورية.
فالوثيقة الدستورية التي كان سودانيون يطالبون بها لتكمل فرحتهم وتؤسس لانتهاء حكم العسكر جاءت مخيبة لكل الآمال في العديد من بنودها ومضامينها على النحو التالي:
(أولا): إغفال دين الدولة وهو الإسلام والذي ظل منصوصاً عليه في كل الدساتير التي حكمت البلاد ومصدر التشريع وهو الشريعة الإسلامية واللغة الرئيسة وهي العربية.
(ثانيا): إعطاء حق التشريع لمدة ثلاث سنوات لمجلس معين غير منتخب يخالف الديمقراطية والمدنية التي تتجسد في انتخابات حره ونزيهة.
(ثالثا): الوثيقة تكرس وتضع كل السلطات السيادية والتنفيذية والتشريعية والعدلية بيد ثلة غير منتخبة لا تمثل الشعب وذات لون سياسي واحد (اليسار) فأعطاها السلطة المطلقة والتي هي مفسدة مطلقة.
(رابعا): تجاهل هذا الاتفاق والوثيقة طيفاً واسعاً من القوى السياسية المؤثرة في البلاد.
ولذلك انتقد حزب المؤتمر الوطني السوداني، الحاكم سابقاً في فترة رئاسة عمر البشير، “الوثيقة الدستورية” التي اتفق عليها المجلس العسكري السوداني والمعارضة اليسارية لأنها أغفلت الشريعة ولأنها “ثنائية وتقصي كل المكونات السياسية والاجتماعية للبلاد”.
وقال البيان “على خلاف تأكيد دستور 2005م على مرجعية الشريعة الإسلامية في التشريع، نجد أن الاتفاق سكت عن ذلك، تاركاً المجال واسعاً أمام توجهات علمانية مطروحة في الساحة هي الأبعد عن روح الشعب وأخلاقه”.
وقال حزب المؤتمر: إن الاتفاق “يمضي في ذات النهج الدكتاتوري في تشكيل مجلس تشريعي بأغلبية من لونية سياسية واحدة، وإن تعددت وجوهها ولافتاتها، دون أي انتخابات أو تفويض، لتصادر سلطة الشعب في التشريع، عبر قوانين ذات طبيعة سياسية بما يتوافق مع أجندتها الحزبية في تصفية حساباتها”.
واعتبر أن الوثيقة “تعقد مستقبل الفترة الانتقالية، وستشوبها ممارسات سياسية متوقعة تقوم على الإقصاء والعزل والشمولية.
فحين قامت ثورة الإنقاذ عام 1989م استبقت عقد اتفاق بين حكومة الصادق المهدي وجون قرنق زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان في مؤتمر قومي كان مزمعاً عقده في 18 سبتمبر 1989م يخصص لحل مشكلة الجنوب على حساب الهوية الإسلامية للسودان وإنقاصاً من تطبيق الشريعة الإسلامية.
كذلك أكد تيار (نصرة الشريعة ودولة القانون) في السودان أنه لن يقر أي اتفاق سياسي لا يتفق مع” قيمنا”، وشدد على أن من يصف التغيير الذي حدث بالبلاد بأنه ضد الإسلام السياسي، واهم وخارج منطق الماضي والحاضر.
ورفض “تيار نصرة الشريعة ودولة القانون” أي تنحية للشريعة الإسلامية عن إدارة الدولة والحياة”.
وقال الطيب مصطفى، رئيس تحالف 2020م الذي يضم عدّة أحزاب وحركات تدعم اعتماد الشريعة في القانون وتناهض الأفكار العلمانية وبينها حزب المؤتمر الشعبي الذي كان في الماضي متحالفاً مع الرئيس المعزول عمر البشير: “السبب الرئيسي لرفض الاتفاق أنه تجاهل تطبيق الشريعة الإسلامية.. منتهى اللامسوؤلية وإذا تم تطبيقه سيفتح أبواب جهنم على السودان”.
ولا يشكل الإسلاميون جزءًا من القوى السياسية التي تجمعت داخل تحالف قوى الحرية والتغيير الذي يفاوض مع العسكريين حول مرحلة انتقالية منذ عزل البشير في 11 أبريل على يد الجيش، ويدعون لرفض الاتفاق الإقصائي لهم ورفض إقصاء الشريعة عن الوثيقة ويهددون بمظاهرات واعتصامات ضد هذا الانقلاب على هوية السودان الإسلامية.