تحرص مجلة «المجتمع» على أن تستكتب في شأن الأسرة حواء العصر؛ لترى أخرى كيف تفكر حواء في الأسرة، وكيف تنشغل وتهتم وتنظر هي لقضايا الأسرة وقضيتها داخلها، سارت المجلة عبر رحلتها الممتدة، تحاول سبر أغوار المجتمع الأسري، تستكتب المتخصصين من الرجال والنساء، ولا تقتصر على نقل الصورة الدينية فقط، التي تعتمد الوعظ والتذكير سبيلاً وحيداً لرأب الصدع وإقامة البنيان وضمان استمراره، بل تستقطب المتخصصين والمتخصصات في شتى جوانب العلم والمعرفة، لتعالج من جميع الأنحاء.
الإنسان الصالح غاية في البناء الأسري:
في العدد الصادر في المحرم 1390هـ/ مارس 1970م، نطالع قول الكاتبة: «الواجب الأول على الأسرة أن تبذل قصارى جهدها لإقناع أبنائها بالتمسك بتعاليم القرآن والسُّنة…»، وتمر عجلة الزمن 10 سنوات تعالج فيها المجلة قضايا الأسرة، حيث نلتقي مع العدد (465) عام 1400هـ، فنلتقط منه هذا العنوان الجانبي: «استثمروا أموالكم في بناء إنسانكم وتطويره».
لقد جعل الله تعالى علة الخلق في الإيجاد هي العمل الصالح، قال تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (الملك: 2)، والعمل الصالح هنا هو الإسلام.
قد تطغى مظاهر الحياة على بعض الأسر، فتجعل من تربية الصغار على حبِّ العمل الصالح والانحياز له، والتخلق به شيئاً ثانوياً.
من هنا، كان استشعار الأسرة واجبها، نحو غرس قيمة العمل الصالح في نفس الطفل، وتنشئته على قيم الحلال والحرام، هو الخليق بها، لا أن تربيه على الأعراف السارية، التي ليس لها ضابط يضبطها، التي قد تجانب الصواب؛ ركونا للهوى، في كثير من الأحيان.
ولعل استشعار أهمية غرس العمل الصالح، وحسن التنشئة عليه، نجده يقيناً في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له»(1)، فديمومة الثواب بعد الموت إحدى ركائزها الولد الصالح.
والولد الصالح هو نتاج رحلة تبدأ مبكراً، مع قرار الاختيار الأول للزوج والزوجة؛ فإن الاختيار المؤسس على اعتبارات إيمانية، البعيد عن اختيار الهوى هو الخليق، وهذا يقودنا لتناول عملية الاختيار.
عملية الاختيار المتبادل:
تشيع في كل المواعظ، والنصائح، والمكاتبات التذكير بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها وجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين، تربت يداك»(2).
وفي الجانب الآخر قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض، وفساد عريض»(3).
تقف عملية النصح والمشورة، والسؤال عند الخاطبين عند حد السؤال عن الدين، وإهمال جانب الأخلاق والممارسات، كما تهمل السؤال عن السمات الشخصية، ظناً أن السؤال عن الدين وحده كاف في التحري.
لا شك أن اعتبار الدين بناء على الحديث اعتبار مهم، لكنه اعتبار يؤخذ بمعزل عن ممارسات نبوية وردت في ذات السياق، لا يجوز إهمالها وترك التحري عنها، لقد جاءت فاطمة بنت قيس تستشير رسول الله في خطبة أبي الجهم ومعاوية لها، فقال لها صلى الله عليه وسلم: «أما أبو جهم، فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك لا مال له، انكحي أسامة بن زيد» فكرهته، ثم قال: «انكحي أسامة»، فنكحته، فجعل الله فيه خيراً، واغتبطت به(4).
فلما كان أبو الجهم ضرَّاباً للنساء، شديداً عليهن، وكان معاوية فقيراً، فإن أخلاق الأول، وإملاق الثاني لممّا يذهب كثيراً ببهجة الزواج، فصرفها النبي صلى الله عليه وسلم عنهما، وأشار عليها بأسامة بن زيد، ولقد كادت ألا تقبل بأسامة، لكنها قالت: فنكحته، فجعل الله فيه خيراً، واغتبطت به(5).
لم يكن هناك طعن البتة في دين أبي الجهم ولا معاوية رضي الله عنهما، وكان الأول معظماً في قريش(6)، ومعاوية هو من هو، لكن النبي صلى الله عليه وسلم في التوجيه للاختيار ضم أشياء لا بد من الانتباه لها، قد يغفل عنها من أخذ من السُّنة بجانب ولم يلتفت لجوانب أخرى
إن أخلاق: الكرم، والرحمة، واللين، والسماحة، والصدق، والمروءة، وعلو الهمة.. وغيرها من أخلاق التعايش لممّا يجب التحري عنه في عملية الاختيار لكن بدون تعمق وتكلف.
وفي الحديث جانب مهم آخر؛ وهو أن المستشار مؤتمن، فلا يجوز غش المسلم أو المسلمة أبداً في حال النصح، فلا يُقبح الحسن، ولا يُحسَّن القبيح، لأن الاستشارة من الأمانات التي يجب إسداؤها على صفة الأمانة لا المخادعة.
وصية ونصح:
في نصيحة الأم العربية لابنتها قبيل زفافها، وهي الوصية التي تصلح دستوراً مجتمعياً صالحاً طوال الزمن، الذي عرضت لها المجلة في العدد (40) ديسمبر 1970م، نلتقط خيطاً أسرياً مهماً؛ فكم انفرط عقد بيوت مستقرة بسبب عدم التوعية الزوجية قبل الزواج، وكم من امرأة لم تغادر بيت أبيها وهي في بيت زوجها، وظلت تعيش مع الزوج بتصرفات الابنة مع أبويها، وهي لا تشعر أنها صارت زوجة، فلما افتقدت في الزوج معنى الأبوة الكاملة، رأت أن حياتها لا تطاق، فطلبت على تعجل منها الفراق!
تقول أمامة بنت الحارث لابنتها:
1- كوني له أمة يكن لك عبداً.
2- لا تقع عيناه منك على قبيح، ولا يشم منك إلا أطيب ريح.
3- لا تفشين له سراً ولا تعصين له أمراً.
4- الصحبة بالقناعة، والمعاشرة بحسن السمع والطاعة.
وملاك الأمر في المال حسن التقدير، وفي العيال حسن التدبير.
في وصية جامعة ينبغي أن يتم تلقينها لكل مقبلة على الزواج.
كما أن الزوج أيضاً عليه أن يغادر بيت أبويه، فليست زوجته هنا هي أمه، التي تتلقى كل ما يصدر منه بالسرور حتى ولو كان علقماً.
تنشئة الأبناء على أخلاق الوحي:
لا بد في عملية التنشئة، وفي ظلال ما أوردته المجلة سلفاً عن التربية على القرآن والسُّنة أن نعرج على الوصية الجامعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما حيث قال له: «يا غلام إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك..»(7).
في النموذج النبوي تقوم تربية الأبناء على تربية الوازع الديني الذي يجعل الولد متعلقاً بربه إقداماً أو إحجاماً، فالتربية في النموذج النبوي هي تربية النشء على الجسارة التي لا تبلغ حد التهور، والحذر الذي لا يصل لحالة الجبن، في النموذج الإسلامي العناية تكون بتربية الفرد المصلح، وليس الاقتصار على الفرد الصالح.
وصية للباحثين:
وأختم بوصية للباحثين الجادين في المجال الأسري والاجتماعي: أن هذا التراث الزاخر من أعدادٍ أصدرتها المجلة، وتلك الصفحات المرقومة، التي عنيت بشأن الأسرة، لتستنهض الهمم نحو دراستها دراسة أكاديمية، وأقترح لها العناوين التالية:
1- قضايا الأسرة في المنظور الإعلامي.. مجلة «المجتمع» نموذجاً.
2- دور الإعلام الإسلامي في تناول قضايا الأسرة.. مجلة «المجتمع» نموذجاً.
3- الأسرة في الخطاب الإعلامي المعاصر، دراسة مقارنة بين مجلة «المجتمع» ومجلة.. إلخ.
كما أن هناك موضوعات عدة فقهية، واجتماعية، وتربوية، ودعوية تصلح أن تكون مناط دراسة أكاديمية.
فحق لهذه الصفحات أن تتبوأ مكانتها، ويتم دراستها دراسة وصفية تحليلية، ودراسة نقدية، ودراسة مقارنة.
________________________________________________________________
(1) أخرجه مسلم، برقم (1631).
(2) متفق عليه.
(3) أخرجه الترمذي برقم (1084) وحسنه الألباني.
(4) أخرجه مسلم، برقم (1480).
(5) أخرجه مسلم، برقم (1480).
(6) الاستيعاب: 4/ 1623.
(7) أخرجه الترمذي برقم (2516)، وقال حسن صحيح.