من أركان الإيمان في ديننا الحنيف الإيمان بالقدر خيره وشره حلوه ومره، وهو سر الله في خلقه لم يطلع عليه ملك مقرب ولا نبي مرسل.
وله 4 مراتب:
1- الشامل لجميع المخلوقات.
2- تقدير أعمال بني آدم وأرزاقهم وآجالهم وسعادتهم عقيب خلق آدم.
3- بعد إرسال الملك إلى الجنين في بطن أمه فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات: رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد (كما ورد في حديث ابن مسعود، متفق عليه).
4- الموضوع على العبد عند بلوغه، الذي يكتب بأيدي الكرام الكاتبين، وهم الذين يكتبون ما يفعله بنو آدم، كما في قوله تعالى (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (ق: 18).
وما دام الأمر كذلك فالأمور كلها مقدرة من عند الله لا يخرج منها ولا يدخل فيها شيء، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، ويضاف إليها مما يتعلق بالموضوع -أن نتيقن- أن ما أصاب العبد لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه: ومن هذا قول القائل:
ما قضى الله كائن لا محالة والشقي الجهول من لام حاله
ويبنى على هذا أنه لو اجتمع الخلق كلهم على شيء كتبه الله فيه أنه كائن ليجعلوه غير كائن لم يقدروا عليه، ولو اجتمعوا كلهم على شيء لم يكتبه الله تعالى فيه ليجعلوه كائناً لم يقدروا عليه، قال تعالى: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) (القمر: 49).
ولا يفهم خطأ أن هذه المراتب الأربع منفصلة بعضها عن بعض، بل هي مترابطة كل لا يتجزأ في تقديرها من الله سبحانه وتعالى، وبنظام واحد، ومن هذا الترابط نتج منه قواعد وسنن كونية قد ذكرت في ثنايا عشرات آيات القرآن الكريم، وكذلك الأحاديث الشريفة الكثيرة، وأن من أهم ميزاتها أنها لن تتغير ولن تتبدل كما في قوله تعالى: (فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً) (فاطر: 43).
فمن هذه السنن، قوله تعالى: (مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ) (النساء: 79)، وقوله: (وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ) (النساء: 78)، فإن قيل: كيف الجمع بين قوله: (كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ) وقوله: (فَمِن نَّفْسِكَ)؟ فقيل: قوله: (كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ) معناه الخصب والجدب، النصر والهزيمة، ويقاس عليه الغنى والفقر والصحة والمرض، والقوة والضعف.
وقوله: (فَمِن نَّفْسِكَ) أي ما أصابك من سيئة من الله فبذنب نفسك عقوبة لك كما في قوله تعالى: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) (الشورى: 30).
فالحسنة مضافة إلى الله إذ هو أحسن بها من كل وجه فتقتضي الإضافة إليه، وأما السيئة فهو إنما يخلقها لحكمة، وهي باعتبار تلك الحكمة من إحسانه، فإن الله تعالى منزه بفعل سيئة قط، بل فعله كله حسن وخير، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الاستفتاح: “والخير كله بيديك والشر ليس إليك”؛ أي: فإنك لا تخلق شراً محضاً، بل كل ما تخلقه ففيه حكمة، وهو باعتبارها خيراً، ولكن قد يكون فيه شر لبعض الناس، فهذا شر جزئي إضافي، فإما شر كلي أو مطلق، فهذا ينزه عنه تعالى، وهذا هو الشر الذي ليس إليه، وليس إذا خلق ما يتأذى به بعض الناس لا يكون فيه حكمة، بل لله من الرحمة والحكمة لا يقدر قدرها إلا الله تعالى.
وفي قوله تعالى: (فَمِن نَّفْسِكَ) أن العبد لا يطمئن إلى نفسه ولا يسكن إليها، فإن الشر كامن فيها لا يجيء إلا منها، وإذا جاءته ملامة أو إساءة فإن ذلك بما كسبت يداه وذنوبه، فوجب عليه أن يستعذ بالله من شر نفسه وسيئات عمله، ويسأل الله أن يعينه على طاعته، وبذلك يحصل على كل خير، ويدفع عنه كل شر.
وبعد كل هذه المقدمة العقائدية يرد السؤال التالي:
هل فيروس “كورونا” شر ومضرة أم هي خير ومنفعة؟ ولكن ليس من الحكمة التسرع في إعطاء الحكم قبل المقارنة بينهما، ثم الموازنة أيهما أرجح شرعاً؟
قد يتبادر للذهن الاستغراب أن يكون للوباء منافع وفوائد عدة! يرى ويسمع هذه الأضرار الفادحة من موت الناس أو إصابتهم يومياً وعلى مختلف الأعمار وليس على مستوى مدينة أو دولة أو قارة، بل على مستوى العالم أجمع؛ حتى ضاقت الأرض عليهم بما رحبت! وفي ظني أن هذه تحدث لأول مرة في تاريخ البشرية، والذي ساعد على سرعة الإصابة وانتشاره سهولة تنقل الناس من مكان لآخر في العالم، وأيضاً من ميزة الوباء وخطورته أن أعراضه قد لا تظهر من حامله إلا بعد أسبوعين، ويكون المصاب أثناء هذه الفترة والأعداد ما زالت في ازدياد يومياً حتى وصل بهم الأمر الاختيار من الذي سيعالج ومن الذي يترك ليموت مع جهل الناس وعدم معرفتهم بخطورة الوباء في بدء أمره لأخذ الاحتراز اللازم منه في وقته المناسب، ولكن قدر الله وما شاء فعل لأمر أراده وحده ولتجري المقادير على ما أراده وليس بالصدفة على ما يظن، وهذا ما سيتبين لنا أثناء الحديث عن منافع الوباء.
ويضاف إلى ما ذكر الخسائر الاقتصادية الهائلة الشاملة بجميع فروعها لكل بلد في العالم وبدون استثناء، التي لا يمكن حصرها الآن؛ لأنه لم يتمكن من حصر الوباء والسيطرة عليه، وكذلك تدهور الحالة الصحية العامة للناس بسبب تعمد بث الذعر والخوف والهلع من أخبار الإصابات والوفيات من الوباء وعلى كافة مستويات وسائل الإعلام -المرئية والمقروءة والمسموعة- مما سبب ازدياد الإصابة بأمراض القلب والسكري والضغط وضعف المناعة وغيرها.
ووصل بهم الأمر حتى أدى إلى إغلاق المساجد ومنع الصلوات الخمس وصلاة الجمعة خشية الإصابة بالفيروس، والاكتفاء برفع الأذان، وربما لم يحصل مثل هذا على مدار تاريخ الإسلام، لأن من المعلوم أن صلاة الجماعة والأذان كلاهما يعتبران من شعائر الإسلام، ومن شأنهما أن يجهر بهما في دار الإسلام، وربما تكون الإصابة بالوباء بين الحاضر والماضي، أنه كان سابقاً إذا ظهر الوباء يكون غالباً محصوراً في مدينة أو مدينتين، ثم ما يلبث أن ينتهي، أما هذا فقد تجاوز الحدود كلها، والمشكلة عامة وضرورية، وعلماء كل بلد هم أدرى بشأن بلدهم.
ومع كل هذه الخسائر المادية الظاهرة بأنواعها فلا يجوز للمسلم أن ينظر إليها بنظرة سوداوية، وينسى منافعها الجمة وهو غافل عنها.
وهذه المنافع تنقسم إلى:
1- عقائدية: ما ذكرناه سابقاً أن “ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك”، فلم القلق والخوف والفرار منه؟ وأن الموت والحياة والضر والنفع بيد الله وقدره، وهذا الفيروس ما هو إلا جندي من جنود الله سخره لتأدية أمره، ومتى يأذن برفعه سينتهي كما بدأ.
2- وكذلك منها “أن الآجال مقدرة”، لا مفر منها وإن تعددت أسبابها، فإن نجا من الإصابة بالفيروس سوف يموت بغيره ولا بد، وقوله: (أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ) (النساء: 78)، وعن عبدالله بن مسعود قال: قالت أم حبيبة زوج النبي: اللهم أمتعني بزوجي رسول الله، وبأبي سفيان، وبأخي معاوية، فقال النبي: “قد سألت الله لآجال مضروبة، وأيام معدودة، وأرزاق مقسومة، لن يعجل شيئاً قبل أجله، ولن يؤخر شيئاً عن أجله” (رواه مسلم).
وبهذا الاعتقاد كان سلفنا الصالح ومن بعدهم يخوضون المعارك ويقتحمون في مظان الموت مقبلين غير مدبرين، صابرين محتسبين طمعاً لنيل الشهادة، ومع ذلك يرجعون إلى بيوتهم سالمين ليموتوا على فرشهم، وما دام الأمر هكذا فلا يجوز الإفراط عند اتخاذ الأسباب، وإن كانت هي أيضاً من القدر وأمرنا به، ولكن ليجعله مجرد وسيلة للوقاية كلبس الرسول درعه ولامته، ومع ذلك جرح في غزوة أحد، فالحذر لا يغني من القدر، فنفر من قدر إلى قدر الله.
3- الحد من مظاهر الشرك بالله والاستعانة بالقبور وزيارتهم، إذ وجدوها لا تجدي نفعاً ولا تحميهم من الوباء ولا تشفيهم إذا أصابتهم، ولا أدري إن كان له منزلة لهذا المقبور أفضل من سيدنا إبراهيم عليه السلام وهو حي عندما قال: (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ {78} وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ {79} وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ {80} وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ {81}) (الشعراء)، وعلى شاكلته العكوف إن لم تصل إلى عبادة التكنولوجيا المتطورة التي ثبت عجزها عن انتشار الوباء والاستسلام لرب الوباء وإخلاص الدعاء له وحده واستغفاره والإنابة إليه لتيقنهم عملياً بأنه لا يكشف الضر إلا هو.
4- فائدة تغييب الآجال عن الناس، وإلا أدى إلى تعطيل مصالحهم وشل حركتهم وأدت إلى خراب العالم وعدم عمرانه، وهذا ما نراه الآن، فهو يفر من الوباء وربما لم يصبه ولكن أجله المحتوم كان في شيء آخر وهو لا يدري ولا بد.
أما فوائدها الفقهية فكثيرة، منها:
1- قال تعالى: (وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) (البقرة: 251)، فهي سُنة متبعة لهذا الدفع لتحقيق الإصلاح، فبالوباء دفع الله به ما يغني عن قيام حروب وجيوش وقوات شرطة وتشريع قوانين صارمة حتى يلتزم بها، وعقد مؤتمرات واجتماعات وتأليف كتب وبحوث ودراسات علمية، فقام هذا المخلوق الضعيف الذي لا يرى بالعين المجردة بالقيام عن مهامهم كلهم بغلق محلات بيع الخمور والمراقص والملاهي ودور عرض الأزياء والملاهي ونوادي المجون والقمار والمسارح والشذوذ والدعارة والبغاء والعري على شواطئ البحار والأماكن السياحية التي تجمع هذه المنكرات حول العالم، وذلك مصداقاً لقوله تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم: 41).
2- نحن الآن نعيش في زمان قد بدأ الإنسان فيه بالطغيان والتكبر والتجبر، وظن في نفسه أنه قد خرق الأرض وبلغ الجبال طولاً مع غزوه للفضاء والأسلحة بأنواعها النووية والكيماوية والبيولوجية والتسابق فيها والتطور الهائل في كل شيء، فلا بد من تدخل إلهي لإرجاع الموازين إلى نصابها الصحيح (كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى {6} أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى {7} إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى {8}) (العلق)، وهذا بمجموعه جعله يتفلت من أخلاقه والتزاماته وعهوده ومواثيقه والاعتداء على الآخرين حتى عجت الأرض بمفاسدهم وحقت عليهم سُنة الله بالوباء لتأديبهم وكسر شوكتهم وإرجاع الناس إلى الله بالتوبة والدعاء والاستغفار والإنابة إليه، قال تعالى: (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ) (المؤمنون: 76)، وقوله: (وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (الأنفال: 33).
3- لم يعرف قيمة الشيء حتى يفقد، ومنها نعمة الصحة، في الحديث: “نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ” (رواه البخاري)، فوجب شكرها لإدامتها.
4- تجلت صورة من صور يوم القيامة ونحن مازلنا ربما في بداية الوباء، قال تعالى: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ {34} وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ) (عبس).
5- تعليم الناس الحجر الصحي حتى القادة وكبارهم وقد سبقهم إلى ذلك النبي الأمي قبل 14 قرناً بقوله: “إذا سمع به بأرض فلا يقدمن عليه ومن كان بأرض وقع بها فلا يخرج فراراً منه” (رواه البخاري).
6- تعليم الناس الآداب أثناء السعال أو العطاس أمام الجالسين عنده بوضع اليدين على الفم والالتفات جانباً.
7- وهناك بشارتان:
أ- قول الرسول: “عجباً لأمر المؤمن! إن أمره له كله خير، وليس لذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، وكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيراً له” (رواه مسلم).
ب- أنه من أصابه الوباء ثم مات منه فهو شهيد، كما ورد في الحديث: “الشُّهَدَاءُ خَمسَةٌ: المَطعُونُ، وَالمبْطُونُ، والغَرِيقُ، وَصَاحبُ الهَدْم وَالشَّهيدُ في سبيل اللَّه” (متفقٌ عليهِ)، ومن كانت ميتته بهذه الفضيلة فلمَ الهلع والخوف منه؟
8- ومن سُنة الحياة الابتلاء والتعب ثم الثواب الجزيل لمن صبر عليها وفوض أمره إلى الله، قال تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) (البلد: 4)، وقوله: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ {155} الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ) (البقرة).
هذه بعض فوائد السُّنن الكونية من وباء “كورونا”، وإن كانت لم تنته بعد لأن الوباء لم يتم السيطرة عليه حتى الآن، ولكن فيما ذكر ففيه الكفاية للعاقل اللبيب.
وندعو الله أن يكشف ويرفع الغمة عن هذه الأمة، وأن يعيدها إلى رشدها باتباع كتاب ربها وسُنة نبيها، إنه سميع قريب.