مقدمات أساسية في القراءة:
لكل استقراء علمي منطلقاته الفكرية، وسوف نشير هنا إلى هذه المنطلقات في صورة مقدمات أولية للقراءة العلمية لواقع التعليم العالي العربي في ظل الجائحة، على أن يتولى الباحثون تفنيد هذه المقدمات حال إجراء بحوث علمية في هذا الإطار، وهذه المقدمات هي:
1- ضرورة الوعي بتباين الإمكانات المادية المتاحة للتعليم العالي بين منطقة الخليج، وغيرها من المناطق العربية.
2- الوعي بأهداف التعليم العالي في العالم العربي؛ فهذا الوعي يرشد بتقويم الوسائل البديلة المتبعة إبان التعامل مع الأزمات، التي تطال التعليم العالي بشكل مباشر كما في هذه الجائحة.
3- ما يتعلق بالخطط المعتمدة في إدارة الأزمات في واقع التعليم العالي العربي، ومدى تدريب العاملين بالجامعة عليها ووعيهم بأهميتها، ومدى تأثيرها في التغلب على عائق الجائحة.
4- ما يتعلق بطبيعة المدى الزمني لخطة إدارة أزمة الجائحة؛ هل هي لحظية موقوتة بنهاية العام الدراسي، أم مستقبلية إستراتيجية؟
5- ما الوسائل التي اعتمدتها إدارات التعليم العالي في «إدارة الأزمة»؛ هل هي وسائل ذات بنية تحتية صالحة للاستخدام ومجربة ومدرب عليها، أم أنها عشوائية ارتجالية، تخضع للاجتهاد الفردي وتختلف بحسب اجتهاد كل عنصر في العملية التعليمية؟
يمكن إضافة مقدمات أخرى، إلا أننا سنكتفي بتلك المقدمات الخمس التي نراها ضرورية لمعالجة ما نقوم بطرحه هنا.
التعليم العالي في مصر وإدارة أزمة «كورونا»:
فيما يتعلق باستقراء حالة التعليم العالي في مصر، يمكن الوقوف على الخطوات التالية، كمحكات رئيسة في إدارة أزمة الجائحة في الواقع الجامعي، وهذه الخطوات هي:
1- توقيف الدراسة في الجامعات؛ حيث صدر قرار وزاري بوقف الدراسة في الجامعات منذ أول مارس، ولم يتم استئنافها في الواقع الفعلي حتى نهاية العام الجامعي 2019/2020م، وهنا بدأ التفكير في طرق بديلة لاستكمال العام الدراسي الجامعي وإجراء الاختبارات النهائية لسنوات النقل والسنة النهائية.
2- أصدر المجلس الأعلى للجامعات، في 18 أبريل 2020م، قراراً بضرورة استكمال المقررات الدراسية حتى 30 أبريل.
صدر هذا القرار دون التطرق إلى بيان الكيفية التي يمكن من خلالها لعضو هيئة التدريس كيفية القيام بهذا الاستكمال، وبأي طريقة أو وسيلة تتضمن التواصل الكامل والفعال والميسر لكل من الأستاذ والطالب، وترك الأمر لاجتهاد الأستاذ وتوفيقه في التواصل مع طلابه، ومن ثم خضع التواصل بين الطالب والأستاذ إلى ما يمكن تسميته بـ»التواصل الشخصي».
3- وفيما يتعلق بالتقويم، أصدر المجلس الأعلى للجامعات، في 7 مايو 2020م، قراراً بإلغاء الامتحانات التحريرية والشفوية لطلاب الجامعات، واستبدل بها نظام الأبحاث (مقالة بحثية، بحث مرجعي، مشروع بحثي)، وترك لكل جامعة أن تنظم ما يناسبها وتعلن عنه للطلاب.
أما الشروط الخاصة بهذا النظام (الأبحاث) فلم يتعدَّ كونها تلخيصاً وافياً للمقرر الدراسي في صورة مقولبة؛ حيث تم وضع مجموعة من العناصر لهذا التلخيص، الذي تم اختزال أكثر من نصفه في أسبوعين من خلال التواصل الشخصي بين الأستاذ والطالب.
ترتب على ذلك أن ظل الكتاب الورقي مركزياً في ظل التعامل مع الجائحة؛ حيث كان لا بد أن يلجأ الطلاب إليه من أجل القيام بإعداد الأبحاث أو بالأحرى الملخصات، هذا على الرغم من وجود «المركز القومي للتعليم» أحد المراكز التابعة للتعليم العالي منذ عام 2009م!
من ناحية أخرى، أتاح ذلك –نظام الأبحاث- لجوء عدد من الطلاب إلى طرق مختلفة للحصول على هذه البحوث؛ حيث وصلت لأثمان باهظة، كما تناقل ذلك بعض وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، وكما ظهر في البحوث المرسلة من الطلاب.
أما طريقة الإرسال فكانت أكثر ذاتية؛ حيث قام كل طالب بإرسال بحثه للتقويم من خلال بريده الإلكتروني الخاص به، أو اللجوء إلى «السيبرات» للقيام بهذا الإرسال، دون وجود طريقة موحدة ضامنة، وذلك من خلال «الكنترول» التقليدي باستقبال هذه البحوث، وإعادة إرسالها بطرق مختلفة إلى أستاذ المادة بغرض تصحيحها، وإعادة الكشوف الخاصة بها إلى «الكنترول» مرة أخرى.
هل تم تدشين خطة لإدارة الأزمة؟
تناقلت الصحف خطة وزارة التعليم العالي الخاصة بالعام الجامعي 2020/2021م، التي تشير إلى أنه سيتم تقسيم الطلاب بالجامعات المصرية إلى مجموعات صغيرة لمنع التزاحم وتحقيق التباعد الاجتماعي، وأنه سيكون كل عضو من أعضاء هيئة التدريس مسؤولاً عن عدد من المجموعات، على أن يتم تطبيق النظام «الهجين» الذي يجمع بين تنفيذ التعليم المباشر والتعليم عن بُعد (الإلكتروني) معاً، بنسبة 60% مباشر إلى 40% إلكتروني بالكليات العملية، و50% تعليم مباشر إلى 50% تعليم عن بُعد للكليات النظرية، مشيراً إلى أن هذا النظام سيكون نظاماً دائماً وليس إجراء مؤقتاً بسبب فيروس «كورونا»، مع مراعاة كافة الإجراءات الاحترازية مع بداية العام الدراسة الجديد للجامعات.
وكذلك سيكون ارتداء الكمامات إلزامياً للطلاب والعاملين وأعضاء هيئة التدريس، وأن نسبة الحضور بالجامعات مع العام الدراسي الجديد ستكون يومين لطلاب الكليات النظرية، و3 أيام لطلاب الكليات العلمية، على أن يتم مواصلة الأيام الباقية من خلال التعليم عن بُعد إلكترونياً مع عقد الأنشطة والحلقات النقاشية إلكترونياً، ويدير كل عضو هيئة تدريس عدة مجموعات (جاء ذلك خلال اجتماع لجنة التعليم والبحث العلمي بمجلس النواب في 20 يوليو 2020م).
إلا أن هذا التصور لم يصاحبه إعادة النظر في البنية التحتية للتكنولوجيا الرقمية في الجامعات، ولا الإعداد لإيجاد برامج للتواصل المضمون والفعال بين الأستاذ والطالب، أو بين مكونات المنظومة التعليمية بالجامعة، ولا كيف ستكون طريقة التقويم، وهل ستستمر بالنظام الذي كانت عليه (الأبحاث) رغم سلبياته العديدة أم لا؟ كذلك لم توضح الجامعات لأعضائها ما يتعلق بشكل العام الجديد بعد، وكل ما تم الإعلان عنه هو تصريحات صحفية.
حالة التعليم العالي في السعودية في ظل الجائحة:
اتسمت الحالة السعودية بتوافر البنية التحتية للتواصل الجامع بين الأستاذ والطالب، وكذلك بين عناصر المنظومة التعليمية بالجامعة بعضها بعضاً من ناحية، وبينها وبين الطالب من ناحية أخرى، ولعل ذلك يرجع إلى جهوزية هذه البنية من قبل الجائحة.
تحديداً يرتبط النظام التعليمي في الجامعة السعودية بنظام تكنولوجي تعليمي هو نظام «البلاك بورد» (Blakboard)، وهذا النظام يتضمن أدوات متعددة تدعم المعلم والمتعلم، وكذلك المنظومة الإدارية التي ترتبط بعملية التعليم، كما أنه يتيح وسائل متعددة الخيارات يمكن من خلالها التنويع في وسائل الاتصال بين الأستاذ والطالب، كما أنه أيضاً يتيح إجراء الاختبارات الخاصة بالمقررات الدراسية وتقديم التغذية الراجعة الفورية للطالب، وتتولى عمادة التعليم الإلكتروني والتعليم عن بُعد متابعة استخدام هذا النظام لعناصر العملية التعليمية في الجامعة السعودية.
ومن الناحية الواقعية، التزمت الجامعات السعودية –بعد توقيف الدراسة المباشرة فيها منذ 8 مارس 2020م وحتى الآن- باستخدام نظام “البلاك بورد” في استكمال العام الدراسي الجامعي، وهذا النظام يسجل عليه الطالب منذ دخوله الجامعة، ويتم التواصل معه في كل أموره الإدارية، هذا بالإضافة إلى التسجيل لكل عناصر المنظومة التعليمية والإدارية في الجامعة عليه.
وقد أتاح هذا النظام التعليمي في المجال الجامعي ما يلي:
1- تحقيق التواصل المباشر بين الجامعة بصفة عامة والأستاذ بصفة خاصة وبين الطالب من ناحية ثانية، من خلال وعاء تقني يجمع جميع عناصر المنظومة عليه.
2- بث المحاضرات إلكترونياً لاستكمال المقررات الدراسية للنصف الثاني من العام الجامعي الحالي.
3- التقويم من خلال ما يوفره برنامج “البلاك بورد” من مخزن للأسئلة والاستطلاعات والاختيارات، وهي اختبارات متنوعة ومتعددة الأشكال، كما يتوفر على تغذية راجعة للطالب ومعرفة درجته الامتحانية الفورية.
كما منح الطالب فرصة أخرى لدخول الاختبارات حال رغبته في تحسين درجاته الامتحانية بما يضمن مصلحة الطالب في النهاية ومراعاة الظروف الاستثنائية للجائحة، وبذلك تم التغلب على إشكالية إلغاء العام الدراسي، إلا أنه مما ساعد على ذلك هو توافر البنية التحتية الرقمية للمنظومة التعليمية بالجامعة، والتدريب عليها.
خطة العام الجديد:
كما ذكرنا –سابقاً- بأن وزارة التعليم العالي تمنح الاستقلالية العالية للجامعات السعودية في إدارة منظومتها التعليمية ولا تقوم الوزارة إلا بدور المشرف والمنظم في ذلك، ولهذا فالملاحظ وجود تباين في خطة العام الدراسي القادم، فبعض الجامعات -مثل جامعة أم القرى- أعلنت أنها سوف تعتمد نظام التعليم عن بُعد، بينما جامعات أخرى تجري تجهيزات ميدانية لاستقبال الطلاب دون أي إشارة إلى طبيعة ذلك الاستقبال، وجامعات أخرى لم تأخذ قراراها حتى الآن.
مستقبل التعليم عن بُعد في التعليم العالي بالبلدان العربية:
يمكن أن نشير في نهاية المقالة إلى أن واقع التعليم العالي في بلداننا العربية آخذ بصورة حتمية في التغيير، وأن الفضاء الإلكتروني هو المجال الحيوي لهذا التغيير الطوعي أو القسري، لذلك نطرح هنا مجموعة من المباني المعرفية التي نراها من الضرورة بمكان أن تخضع للنقاش الأكاديمي والمجتمعي معاً، فإن التعليم عن بُعد ليس فقط توافر برنامج وشبكة إنترنت، ولكنه يتضمن مجموعة كبيرة من الأوعية الثقافية والفكرية والأبنية القانونية كذلك، ومن تلك المحاور التي ينبغي أن تخضع لمثل هذا النقاش ما يلي:
1- ما يتعلق بطبيعة المعرفة الجامعية المقدمة للطلاب، هل تظل كما كانت سابقاً في الكتاب الورقي، والمذكرات والملخصات وما إلى ذلك مما اختزل عقل الطالب الجامعي العربي، أم أنه لا بد من النقاش حول بنية معرفية جديدة تنموية وتزكوية واجتماعية متطورة؟
2- ما يتعلق ببناء علاقات جديدة، بين بينيات عديدة، منها:
– بين الطالب والأستاذ، والأستاذ والطالب.
– بين الطالب وأدوات التكنولوجيا ووسائط التواصل.
– بين الأستاذ وأدوات التكنولوجيا وأدوات التواصل.
– بين الجامعة -كمؤسسة إدارية- والطالب من جهة، والأستاذ من جهة أخرى.
– بين الطلاب بعضهم بعضاً.
– بين الأساتذة بعضهم بعضاً.
3- ما يتعلق بالجانب الأخلاقي، نحو استخدام أدوات التكنولوجيا وأدوات التواصل، وفي بناء علاقات جديدة للمعلم والطالب أفقية ورأسية.
4- ما يتعلق بالتقويم والتغذية الراجعة.
5- ما يتعلق بالبناء الثقافي والتربوي الجديد للطلاب.
6- ما يتعلق بالبناء الثقافي لعناصر المنظومة التعليمية والبيئة الأسرية الحاضنة للطالب.
7- ما يتعلق بالأوضاع القانونية واللائحية الجديدة، لاستخدام أدوات التكنولوجيا ووسائط التواصل، وإجراء العملية التعليمية برمتها، فلا يمكن أن تترك للاجتهاد الفردي والشخصي.
هذه جملة من المحاور المعرفية الضرورية التي نرى أن تخضع للنقاش الأكاديمي والمجتمعي والتقني في إطار ما نحن مقبلون إليه وعليه من نظام جديد للتعليم العالي في بلداننا العربية.