زخم واسع على مستويات عدة، ومقاطعة اقتصادية اتسع نطاقها عربياً وإسلامياً؛ رداً على إعادة نشر رسوم كاريكاتورية في فرنسا تسيء للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ثم تصريحات رسمية من رأس الدولة «إيمانويل ماكرون» تتهم الإسلام بالإرهاب، وتدافع عن تلك الرسوم، باعتبارها مظهراً من مظاهر حرية التعبير، لكن ماذا عن ملايين المسلمين في المجتمعات الأوروبية؟ وكيف يمكنهم التعامل مع هذه الإساءات لمقدساتهم، لا سيما أنها متكررة، والأزمات المتكررة يلزمها وسائل مستدامة تناسب هذه المجتمعات؟ فما الوسائل العملية والموضوعية للرد على هذه الإساءة للمقدسات؟
طرحنا هذه التساؤلات على أهل الشأن من الدعاة والعلماء المقيمين بالغرب.
بداية، يقول د. سمير فالح، رئيس مجلس مسلمي أوروبا، لـ»المجتمع»: إن مسألة الإساءة للمقدسات تتجاوز في آثارها وتداعياتها مسلمي أوروبا لتصل إلى المسلمين في كل العالم، وهذا في حد ذاته مسألة إيجابية، ولكنها أيضاً تظل سلبية حينما تكون ردود الفعل غير منسقة، أو حتى في بعض الأحيان متناقضة، وإن كان المسلمون في البلدان العربية والإسلامية ينتهجون مسار المقاطعة والتظاهر، إلا أن الوضع يختلف لدى المسلمين في الغرب.
فالمسلمون في أوروبا لديهم مساحة واسعة من الحريات، بحسب فالح، وبالتالي فلا بد من الاستفادة من هذه الحريات في الرد، وأن تتنوع مجالات الرد وتتفرع إلى مستويات متعددة إعلامياً وسياسياً ومجتمعياً وحقوقياً كذلك، لا سيما عندما تتجاوز هذه الإساءة حدوداً معينة في إطار المقبول، وفي هذه الحالة يمكن التوجه إلى المسار القانوني، وهناك مسار آخر لا يقل أهمية لكنه يحتاج استمرارية؛ وهو مسار التعريف بالإسلام ورسوله من خلال استخدام لغة خطاب تناسب هذه المجتمعات الأوروبية، وإن كان ما يظهر في المقدمة هي الطبقات السياسية والإعلامية، لكن هذا ليس كل المجتمع، هناك المجتمع الحقيقي في الأحياء والمدارس والجمعيات والشوارع، وهذا الذي لا بد من الاشتغال عليه في التعريف بالرسول من خلال لغة خطاب ووسائل مدروسة وجهود تتم بالتنسيق.
تدريس الرسوم المسيئة
في فرنسا، تواصلنا مع مخلوف مامش، رئيس الفيدرالية الوطنية للتعليم الإسلامي الخاص في فرنسا، فقال: على المسلمين في فرنسا وأوروبا ألا يعيروا اهتماماً لهذه الرسوم الكاريكاتورية المسيئة، وأن يستمروا في جهود التعريف بالرسول والإسلام، فالأمور تطورت إلى أن أصبحت مسألة كرامة دولة لا يمكن أن ترضخ للإرهاب المزعوم في نظرهم، وأن سحب هذه الرسوم بمثابة رضوخ من فرنسا أو هزيمة لها أمام الإرهاب، حتى إن وزارة التربية الوطنية تريد أن تضمّن هذه الرسومات في المناهج التربوية، وواقعياً صارت هناك جماعة ضغط تدعو إلى بقاء هذه الرسوم بدعوى حرية التعبير وحرية المعتقد، وكل يختار ما يريد، وليس من مصلحة المسلمين أن يتأجج هذا الصراع أكثر من هذا.
وأضاف مامش: أعتقد أن حب الرسول والغضب من أجله ليس بالقتل، فهذا يعود بالسلب على واقع ملايين المسلمين في المجتمعات الأوروبية، الأمر المهم في التعامل مع هذه التقلبات هو استثمارها في التعريف على نطاق واسع بالإسلام وبالرسول، ففي فرنسا خصص أئمة المساجد خطبة الجمعة الماضية عن «أخلاق الرسول».
أما مع غير المسلمين فالتعريف بالرسول يتم من خلال مضاعفة أنشطة المساجد وفعاليات «الأبواب المفتوحة» التي تنظمها المساجد والمراكز الإسلامية، وتستضيف غير المسلمين للتعريف بالإسلام وسماحته، وكيف ينظر الإسلام لغير المسلم.
كما اعتبر مامش أن شخصية وأخلاق الرسول الكريم تتعرض للظلم في هذه المجتمعات، سواء بسبب الجهل بشخصيته ومكانته من قبل غير المسلمين، فهم لا يعرفون عنه شيئاً، ولم تتوفر لدى أغلبهم مصادر أمينة تعرّفهم بهذا الرسول الكريم، أو بسبب ضعف جهود المسلمين في التعريف برسولهم ودينهم وإظهار صورتهم الحقيقية.
ويرى مامش أن أحسن وسيلة هي الرد بالمثل، والتعامل مع الفكر بالفكر، ولو صدر كتاب يسيء فنرد عليه بكتاب يحسن تعريف الإسلام، والرسوم نرد عليها بالرسوم، بعضهم يسيء ونحن نحسن، ونزيد من جهودنا للتعريف بديننا، والأمر لا يتعدى هذا المستوى ضمن الإطار القانوني استثماراً لمناخ الحرية الذي تكفله القوانين التي بدورها تكفل وتحمي حرية التدين والمعتقد.
الحفاظ على الوجود
ومن النرويج، يقول الشيخ علي فتيني، رئيس جمعية التعليم ورعاية الأسرة: إن هدف المسلمين بالغرب يتركز في الحفاظ على الوجود الإسلامي وتجذيره وتنميته وتطويره وتقديم صورة مشرقة ومشرفة له وعنه، وبالتالي فما يتخذونه من وسائل تنطلق من فقه «الاستطاعة»، وفي مقدمة الوسائل التي يمكن للمسلمين في الغرب العمل بها رداً على هذه الإساءات، توعية المسلمين أنفسهم بمكانة المقدسات واحترامها مع بيان الأسلوب الصحيح للتعامل مع هذه الأحداث، إلى جانب إطلاق مشاريع وحملات مجتمعية عامة بهدف الوصول إلى غير المسلمين وتصحيح المفاهيم الخاطئة، ومن الأمثلة على ذلك الحملة الأوروبية للتعريف برسول الإنسانية التي أطلقها التجمع الأوروبي للأئمة بالشراكة مع عدد من المؤسسات والمراكز في أوروبا.
ونوَّه إلى ضرورة تفعيل التواصل مع الجهات الرسمية والمدنية والدينية، كما حدث في السويد أثناء حادثة حرق المصحف، وكان لذلك نتائج إيجابية، وتفعيل مبادرات التحرك القانوني والقضائي، كما حدث في فرنسا بشأن صحيفة «شارلي إيبدو» قبل سنوات، وفي النمسا، وعلى مستوى المحكمة الأوروبية، وإن كان ذلك يستغرق وقتاً، لكنها مسارات طبيعية تكفلها القوانين، مشيراً إلى تجربة النرويج؛ إذ أقرت الحكومة النرويجية خطة لمكافحة العنصرية والكراهية ضد المسلمين، بعد جلسات ومشاورات جمعت القائمين على المراكز الإسلامية والمؤسسات الرسمية.
واختتم الشيخ فتيني بقوله: إن الأمر الذي يجب الانتباه إليه هو سعي اليمين المتطرف وأصحاب خطاب الكراهية عموماً لاستفزاز المسلمين، ومحاولة جرّهم إلى الفوضى والعنف، وتصويرهم أمام المجتمع أنهم همجيون وليسوا مؤهلين للتعايش والاندماج، ولا يصلحون للعيش في هذه البلاد!
المدخل الثقافي
أما الشيخ طه سليمان عامر، رئيس هيئة العلماء والدعاة في ألمانيا، فيرى أن دلالة تجدد صور الإساءة للإسلام في الغرب من حين لآخر وبصور مختلفة هو عدم تبني المسلمين سياسة العمل التأسيسي المستدام، وبالتالي لا تكون الردود على الإساءات ذات طابع تأثيري طويل الأمد، بحيث تتجاوز حالة الغضب الوقتية، وتوظف العواطف نحو الرسول صلى الله عليه وسلم في مشاريع دائمة؛ مثل الفعاليات الخاصة بالسيرة النبوية في ألمانيا التي تأسس فيها «فريق السيرة النبوية» منذ 4 سنوات، ونظم فعاليات للتعريف بالرسول صلى الله عليه وسلم في معظم مدن ألمانيا، إلى جانب الاستفادة من كون الشعوب الأوروبية بوجه عام شعوباً قارئة، وتتسم بقدرة كبيرة على الحوار والاستماع، وبالتالي فإن المدخل الثقافي واسع وناجع في التعريف بالرسول صلى الله عليه وسلم من خلال الندوات العلمية وطباعة الكتب بجميع اللغات، وحسن اختيار المواضيع التي تناسب العقلية الغربية واهتماماتها.
وأضاف عامر: أعرف أن هناك ضعفاً على المستوى الإعلامي لدى مسلمي أوروبا، ولكن هذا الضعف ليس مبرراً، فالأزمات تفرض على المسلمين أن يحسنوا توظيف الأدوات الإعلامية في تصحيح الصور المغلوطة عن الإسلام ورسوله وكتابه، وتأهيل الكوادر، لا سيما وأن اليمين المتطرف يتربص بالمسلمين دوماً ويعمل على بث الأراجيف.
ويرى عامر أن المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا لا تقل أهمية عن أي مسار، فاليمين المتطرف الذي ينفخ في نار الكراهية حقق مكاسب سياسية كبيرة؛ وبالتالي لن تتوقف حملات الإساءة لنا كمسلمين ونحن على هامش المجتمع، وسنبقى دوماً كبش فداء وفزّاعة ومحل مزايدة في مواسم الانتخابات، كما يجب علينا الانفتاح والتواصل الفاعل مع مكونات المجتمع والمشاركة الاجتماعية الواسعة، فهذه المساعي تتيح للمسلمين الحوار المباشر مع أبناء المجتمع على اختلاف مستوياتهم الاجتماعية والثقافية والسياسية، فالحوار يزرع المعرفة، والمعرفة تمحو الكراهية.