تعد فترة الفتوة ـ المعروفة باسم المراهقة ـ مرحلة بالغة الأهمية من حياة كل إنسان؛ إذ ينتقل فيها من كونه الطفل الصغير الذي يُلقي بنفسه في أحضان والديّه متقبلًا جميع آرائهما وتصرفاتهما إلى فتى يخطو نحو الاستقلالية بحياته الخاصة؛ ويريد أن يثبت لنفسه أولًا قبل الآخرين أنه جدير بالاستقلال عن الآخرين من حوله وأولهما والديّه؛ ومن هنا قد ينكر المراهق تصرفات لوالديه هي في الأصل صحيحة لا غبار عليها، وقد يصل الأمر به معهما إلى الصدام.
وإذا كان كثير من الباحثين يقسمون مراحل الفتوة أو المراهقة إلى: مبكرة، متوسطة، متأخرة، وتبدأ الأولى من سن الثانية عشرة، فيما تمتد الأخيرة إلى الحادية والعشرين أو الثانية والعشرين من العمر؛ فإنه في هذه السن يشعر الفتى بأنه صار: “ينمو قطب الفردية (فيه) من خلال التغيرات العضوية والتوترات التي تحدثها عملية البلوغ.. إذ يدرك المراهق أنه صار رجلًا أو امرأة، ومع هذا فإنه لا يلقى المعاملة الجديرة به من الراشدين والتي تتناسب مع إدراكه لذاته؛ فينشأ الصراع بينه وبينهم، ويراوده شعور بأن أصدقاءه في نفس مرحلته هم القادرون على فهمه وخفض توتراته”. (1).
إننا هنا إزاء أكثر من إشكالية قد تتطور ويترتب عليها نتائج لا تحمد عقباها ونتائجها إن لم ينتبه الوالدان بقوة إليها، فالطفل أو الطفلة الصغيران السريعان الاستجابة لرغبات الأب أو الأم، واللذان لا يثقان بأحد من الأحياء في العالم أكثر من والديهما تنتابهما ويعبران مرحلة بالغة القلق من الحياة، إذ يتحولان إلى بالغينِ يراقبان ويتعاملان مع المجتمع، ومطلوب منهما التكيف مع تغيرات جسدية عاصفة تنطلق بهما من حيز الطفولة الهادئ المليء بجو أغلبه الألعاب والتدليل والسهولة واليسر في التعامل مع الآخرين.. إلى مرحلة جديدة يصيران فيها رجلًا أو امرأة، ومع علامات التغير الجسدي الواضحة، فإن المجتمع والوالدين يعاملانهما على أنهما صغارًا ما يزالان.
ووسط خضم هذه التجربة المزلزلة لعالم الطفل أو الطفلة المُسلمينِ يبرز ويبدو دور الأصدقاء الذين يمرون بنفس المرحلة العمرية، أو يتقدمونهما بعض الشيء، إذ إن الأصدقاء يدركون حقيقة المواقف التي يمر بها الفتى أو الفتاة، ومن هنا تجيء السهولة والسلاسة في التعامل مع رفقاء هذه الفترة.
احتواء واضطراب:
إن الفتى والفتاة يغلب عليهما الحيرة والارتباك نظرًا للتفاعلات والهرمونات التي تغير في جسديهما وطريقة تفكيريهما، وهما في هذه الحالة يشعران بالقلق والاضطراب نحو المستقبل، وتغلب عليهما نظرة إما ان تكون مفرطة في المثالية نحو الحياة والمجتمع من حولهما، ومن هنا يصطدمان قليلًا فقليلًا بالواقع وأبعاده المتغيرة، أو إنهما يكونان في حالة من عدم التوازن وفقدان الثقة بالذات المناسبينِ للمرحلة الانتقالية التي يمران بها، أو قد يشعران بالشعورين معًا في فترات مختلفة أو ربما متداخلة.
ومع عالم يمور ويموج بالمتغيرات سواء التكنولوجية أو الخاصة بالمفاهيم والمعطيات الحياتية المتداولة قد يجد المراهق شعورًا “.. بوجود فجوة تفصله عن أبويّه، يدفعه للبحث عن أصدقاء يشعر أنهم يشاركونه رؤيته للحياة ومشاعره حول أحداثها ومتطلباتها، وهكذا نجد أن للمراهقين مجموعة من الأصدقاء … يشعر الفتى حين يلتقي (بهم) أنه يجالس مَنْ يفهمه كل الفهم، ومن يعاني من جنس ما يعانيه، ولذلك يكون معه على طبيعته، ويكشف عن أسراره الشخصية، وقد يحدثه عن أسرار أسرته، بل قد ينتقد أباه أو أمه أمامه.. ” (2).
وبقدر حنكة الوالدين في التعامل وحكمتهما تمر فترة الفتوة بأقل قدر ممكن من المشكلات، فالمنزل الذي تسوده روح المصارحة والتفاهم، وإبراز جانب بالغ الأهمية للصغار والفتيان ألّا وهو حرص الوالدين على تنشئتهم تنشئة إيمانية؛ والوالدان حينما يربيان الفتيان بهذه المتطلبات الإيمانية يدركان جيدًا أنهما يدعوان إلى الله، وإن أولى الناس بالدعوة إليه تعالى أهل بيتهما، ومن ضروريات هذه الدعوة: (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)) سورة النحل.
وللوالدين الداعيين في فهم الآية الكريمة مواقف خاصة على قمتها التمثل بهدي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والتمثل بالأوامر التي أمره الله تعالى بها وعلى رأسها، كما جاء في “صفوة التفاسير” للراحل “محمد علي الصابوني”: “أدع يا محمد إلى دين الله وشريعته القدسية بالأسلوب الحكيم، واللطف واللين، بما يؤثر فيهم وينجع، لا بالزجر والتأنيب والقسوة” (3).
على أن الأمر لا ينفي الشدة أحيانًا مع الفتى والفتاة لكن بحساب شديد، وبتدقيق أشد في وسائل الشدة المتبعة التي لا ينبغي أن تتجاوز التأنيب اللفظي، أو الحرمان مما يحبانه من غير الضروري من أمور الحياة، أو الهجر الجميل الذي لا ينقصه شيئًا من مستلزمات حياته الرئيسية.
أما مع أصدقاء الفتيان ومراعاة تأثيرهم عليه فيجب الإدراك أن الأمر يتجاوز فترة الفتوة، فمنذ نعومة أظفار الفتى يحسن الوالدين اختيار الأصدقاء المقربين والمقربات لهما، مع دعوتهم إلى المنزل في أوقات متفرقة، واتساع الصدر من جانب الأبوين للاستماع على ما يمر الفتيان به في يومهما وحياتهما، وعدم زجرهما إن انتقدا الأب والأم، مع ضرورة التغيير إن صدر عن الابن أو الابنة رأي فيه صواب، أو حتى غاب عن الوالدين.
كل هذا ينبغي أن يسري في إطار من الحذر بالغ الشدة من أن يشعر الفتى أو تشعر الفتاة بأن الوالدينِ يضعان نفسيهما في مقارنة أو مقاربة مع أصدقائهما، بل إن الأساس أن الأبوين مستعدين لبذل يد العون والمساعدة لأصدقاء الأبناء، ضمن إطار الدعوة إلى الله السابق الذكر.
وفي مرحلة الفتوة لا ننسى أن وسائل التربية ينبغي أن تشهد حيزًا متقدمًا لا يكتفى فيه بالإرشاد والنصح فحسب، بل يتطور الأمر إلى وجوب المناقشة في الأمور المُختلف عليها، وحبذا لو جاءت النتيجة المطلوبة والمرجوة من فهم وفهم الفتى والفتاة نفسيهما؛ وأن يوصي الأب والأم الابن أو الابنة بنقل هذه النتيجة لصحبة الأصدقاء أو الصديقات، بحيث يغلب عليها الصلاح والهدى بعيدًا عن الانهماك فيما يضيع الأوقات أو يأخذ بأيدي رفقة الأصدقاء نحو ما لا يرضيه تعالى.
ومع سرعة تفهم رغبات وتطلعات الأبناء في تلك المرحلة الدقيقة فإن خير دعوة لتغيير سلوكهما هو الاحتواء لهما ودعوة رفقتهما المقربة إلى المنزل، وفي نفس الوقت أن يعظ الوالدين الأبناء وصحبتهما بالفعل، بأن يكونا ما استطاعا قدوة حسنة لهما، كل هذا ينبغي أن يدور ويكون في إطار من الرحمة من جانب الأبوين بالفتيان، والاحترام من جانب الأخيرينِ للآباء، وفق قوله، صلى الله عليه وسلم، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله ﷺ: “ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف شرف كبيرنا”. حديث صحيح رواه أبو داود والترمذي، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح (4).
ــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر:
(1)ـ الصداقة من منظور علم النفس ـ الدكتور أسامة سعد أبو سريع ـ العدد 179 من سلسلة عالم المعرفة الكويتية ـ جمادى الأولى 1414 هـ ـ نوفمبر/ تشرين الثاني 1993م ـ صـ 92.
(2)ـ المراهق كيف نفهمه وكيف نوجهه ـ الدكتور عبد الكريم بكار ـ دار وجوه للنشر والتوزيع/ مؤسسة الإسلام اليوم ـ الطبعة الثالثة 1432 هـ/2011م.
(3)ـ تفسير قول الله تعالى: “ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)”/ سورة النحل من “صفوة التفاسير” ـ محمد علي الصابوني ـ دار القرآن الكريم/بيروت ـ الطبعة الرابعة ـ 1402 هـ ـ 1981م ـ الجزء الثاني ـ صـ148.
(4)ـ رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين ـ أبو زكريا يحيي بن شرف النووي ـ تحقيق وتعليق ماهر ياسين الفحل ـ طبعة دار بن كثير دمشق الأولى 1428 هـ ـ 2007م ـ باب توقير العلماء والكبار وأصحاب الفضل ـ الحديث 355، صـ131.