بين هذه الشبهة والشبهة التي تقدمت عليها (تأخر تدوين السُّنَّة) ارتباط وثيق عند منكري السُّنَّة المحاربين لله ورسوله، المرجفين في الأرض، فالشبهة السابقة كالتمهيد والتوطئة لهذه الشبهة، فما دامت السُّنَّة قد تأخر تدوينها عن زمن صدورها، فهي إذن عرضة للنسيان والسهو، وحين فكروا في تدوينها كانت قد ضاعت بفعل طول العهد ألفاظها، وهذا ما جعل جامعي الحديث النبوي يدونون الحديث بالمعنى دون اللفظ، فالألفاظ من عند الرواة، أما المعاني فهي صور مشوشة لما بقي عالقاً بالذاكرة عند الرواة من معاني الحديث.
ولقد أثار هؤلاء المرجفون هذه الشبهة للوصول إلى الأهداف الخبيثة التالية:
المرجفون أثاروا هذه الشبهة لإبطال الركن الثاني من مصادر التشريع
– أن ما اشتملت عليه كتب السُّنة من أقوال منسوبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هي ليست أقواله! وإنما هي أقوال رجال يخطئون ويصيبون، ولا يوثق بهم.
– أن الأحكام الفقهية التي تفهم من هذه الأقوال إنما هي آراء أولئك الرجال، وليست أحكاماً شرعية!
– أن رجال الحديث خدعوا الأمة، وأوهموها بأن هذه الأحاديث هي من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي ليست كذلك.
– أن أئمة المذاهب الفقهية قد أضلوا الأمة بجعل هذه الأحاديث المزورة أصلاً ثانياً من أصول التشريع!
وقد مهدوا لهذه الأوهام فقالوا: “إن الرواية بالمعنى كانت هي الأصل بالفعل عند السابقين، ولكن علماء الحديث ظلوا يخففون من ثقل هذه الحقيقة على العقول؛ حتى لا يفزع الناس من تلقي أحكام تقال في الدين، عبر أجيال متلاحقة بطريق الرواية بالمعنى، حتى إن الإمام الشافعي جعل ذلك أصلاً من الأصول الشرعية، التي لا ينبغي أن يفزع الناس منها”!
فالمسألة عند هؤلاء المرجفين لا تقف عند حد التشكيك في السُّنة، بل تشمل الفقه وأصوله مع السُّنة؛ لأن أصول الفقه والفقه من أبرز مصادرهما سُنة النبي صلى الله عليه وسلم وما دامت السُّنَّة مزورة وباطلة فما انبنى عليها مزور وباطل كذلك(1).
الله تعالى هو الذي جعل السُّنة المصدر الثاني للتشريع الإسلامي
تفنيد هذه الشبهة ونقضها
إن هذا الكلام يحتوي على عدة أخطاء وأوهام نبينها في الخطوات التالية:
أولاً: إن الأصل المجمع عليه عند علماء الأمة المحققين أن رواية الحديث النبوي وقعت باللفظ والمعنى لا بالمعنى فقط كما يدَّعي هؤلاء المرجفون؛ لأن الذين رووا الحديث سماعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أصحابه رضي الله عنهم، وهم مشهود لهم بالأمانة والعدالة والتقوى والورع، وقد جاء ذلك في صريح القرآن الكريم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، فقد قال الله تعالى مادحاً الصحابة وتابعيهم الذين نقلوا عنهم الحديث النبوي والسنن النبوية: (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة: 100)، فلو كان رواة الحديث النبوي وهم الصحابة الناقلون عن الرسول صلى الله عليه وسلم سماعاً مباشراً مزورين عليه، ولو كان التابعون الذين نقلوا الحديث سماعاً من الصحابة مزورين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، هل كان الله يزكيهم هذه التزكية، ويثني عليهم هذا الثناء؟!
إن تحريف الألفاظ كتحريف المعاني، وهما منافيان للأمانة والعدالة والصدق، فكيف ساغ لهؤلاء المرجفين أن يصموا الصحابة والتابعين بالتزوير على الله ورسوله؟ إنهم رجال القرون الأولى، وهي خير القرون، لقرب أصحابها من عصر الوحي الأمين، ومشاهدة الرواة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وشرف الصحبة، الذي لا يعادله بعد الإيمان شرف مهما كان.
ثانياً: إن الرواية بالمعنى كانت موضع حرج شديد عند الرواة، وهي استثناء أو رخصة نادرة الوقوع فقد كان الصحابة يروون السُّنَّة مع الحرص الشديد على ألفاظها ومعانيها، وكانوا إذا اضطر أحدهم إلى رواية بالمعنى في لفظ من عنده، نبه على هذا حتى لا يظن ظان أن ذلك اللفظ من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، على أن وقوع الرواية بالمعنى –مع ندرتها- لم يجزها العلماء إلا في الرواية الشفهية عند الضرورة القاهرة، أما في تدوين الحديث في كتب، فلم يجز علماء الحديث إبدال اللفظ النبوي، وإذا شك الراوي فإن عليه أن ينبه على ذلك بأن يقول: أو قال، وكذلك فإن مُخرجي الأحاديث يحرصون على ذلك كأن يقولوا “شك من الراوي”، وأحيانا يضيف الراوي عبارة أو جملة توضيحية، بين أجزاء الحديث النبوي، وهذا قد وضع له رجال الحديث ضابطاً أسموه “الإدراج” أو “المدرج” ليميزوا بينه وبين متن الحديث النبوي، وأياً كان فإن الرواية بالمعنى جائزة في أضيق الحدود إذا دعت إليها ضرورة.
الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أكبر الكبائر
قال الماوردي: “إذا نسى اللفظ جاز –يعني الرواية بالمعنى– ولا سيما أن تركه قد يكون كتماناً للأحكام، فإن لم ينسه لم يجز أن يورده بغيره؛ لأن في كلامه صلى الله عليه وسلم من الفصاحة ما ليس في غيره، وقال جلال الدين السيوطي عن الصحابة إذا رووا بالمعنى: “وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا اضطروا إلى الرواية بالمعنى، أو شكوا في اللفظ النبوي أو في بعضه، أوردوا عقب الحديث لفظاً يفيد التصون والتحوط، وهو أعلم الناس بمعاني الكلام، لعلمهم بما في الرواية بالمعنى من الخطر”.
يعني أن الصحابة إذا لجؤوا إلى الرواية بالمعنى نبهوا على تلك الرواية.
وهذا التنبيه له فائدتان:
الأولى: دفع اعتقاد السامع أن اللفظ المروي بالمعنى من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الثانية: الحث على التثبت عند تدوين الحديث من اللفظ النبوي الذي عبر عنه الراوي بلفظ غيره.
كل هذه الحقائق الثوابت جهلها، أو تجاهلها أصحاب هذه الشبهة؛ لأن الغاية عندهم تبرر الوسيلة، والغاية هي عزل سنة النبي صلى الله عليه وسلم عن حياة المسلمين، تحقيقاً لهدفهم في إبعاد الأمة المسلمة عن صحيح دينها(2).
الأصل المجمع عليه عند العلماء أن رواية الحديث النبوي وقعت باللفظ والمعنى
ثالثاً: ومن الجهل والاحتقار أن يدَّعي منكرو السُّنَّة أن الإمام الشافعي هو الذي ابتدع مصدرية السُّنَّة في التشريع الإسلامي، وأن الفقهاء قلدوه في هذا الضلال!
ولبيان بطلان هذا الادعاء نكتفي بذكر ثلاث آيات كريمات، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ) (النساء: 59)، وقال تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً) (الأحزاب: 36)، وقال تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا) (الحشر: 7)، هذه الآيات الثلاث، ونظائرها، هي التي جعلت السُّنَّة النبوية الشريفة مصدراً ثانياً للتشريع الإسلامي، وليس كلام الإمام الشافعي رحمه الله تعالى.
الرواية باللفظ والمعنى توجيه نبوي
ونضيف إلى ما تقدم في نقض دعوى منكري السُّنَّة أنها رويت بالمعنى دون اللفظ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حث أصحابه أن يرووا عنه أحاديثه باللفظ والمعنى، بل قد نهى من سمعه أن يبدل لفظاً مكان لفظ ردده الراوي أمام الرسول صلى الله عليه وسلم في مجلس السماع، فقد قال صلى الله عليه وسلم: “بلِّغوا عنِّي ولو آيةً وحدِّثوا عن بني إسرائيلَ ولا حرجَ ومن كذبَ عليَّ متعمِّدًا فليتبوَّأ مقعدَهُ من النَّارِ”(3).
إن تحريف الألفاظ كتحريف المعاني وهما منافيان للأمانة والعدالة والصدق
فهذا تحذير شديد، ووعيد قاس على الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإبدال لفظ مكان لفظ –مع التعمد– يندرج تحت الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث بلغ مبلغ التواتر الذي لا مثيل له، وقد اشتهر بذلك عند المحدثين فمن يجرؤ من الصحابة بعد ذلك على الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!، وقد قال صلى الله عليه وسلم حاثاً ومرغباً في الأمانة في النقل عنه: “نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِني شَيئَاً فَبَلَغَهُ كَمَا سَمِعَ فَرَب مُبَلِّغٍ أَوعَى مِن سَامِع”(4).
ومما يزيدنا يقيناً في أن السنة رويت باللفظ والمعنى ما رواه الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه حيث قَالَ: قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ، ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الْأَيْمَنِ ثُمَّ قُلْ: “اللَّهُمَّ إني أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ، وَوَجهت وَجْهِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَى مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ، اللَّهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ، فَإِنْ مُتَّ مِنْ لَيْلَتِكَ فَأَنْتَ عَلَى الْفِطْرَةِ، وَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ”. انتهى الحديث.
قَالَ البراء: فَرَدَّدْتُهَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا بَلَغْتُ اللَّهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ” قُلْتُ: وَرَسُولِكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ، فقَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “لَا، وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ”(5).
فانظر إلى مدى حرص النبي صلى الله عليه وسلم على أن يكون تحمل الحديث وأداؤه عنه كما نطق به هو عليه السلام بألفاظه ومعانيه، لذلك لم يقر البراء بن عازب أن يذكر “رسولك” مكان “نبيك” وأعاده إلى الصواب كما نطق هو، مع قرب معنى “رسولك” من معنى “نبيك” لأن للألفاظ وإن تقاربت معانيها خصوصيات دقيقة تجعل اللفظ لا يسد مسد اللفظ الذي قاربه.
فهل يرعوي هؤلاء المرجفون عن ضلالاتهم؟!
___________________________________
(1) كتاب (هذا بيان للناس – الشبهات الثلاثون المثارة لإنكار السنة النبوية – د. عبدالعظيم المطعني – صـ49.
(2) كشف شبهات أعداء السنة – جمع وترتيب شحاته صقر – صـ148.
(3) أخرجه البخاري (3461)، من حديث عبد الله بن عمرو.
(4) أخرجه الترمذي (2657) واللفظ له، وابن ماجه (232)، وأحمد (4157).
(5) أخرجه البخاري (247)، ومسلم (2710).