تحدثنا في الجزأين الأول والثاني عن قيم العمل التطوعي تجاه مفهوم التطوع، وتجاه المنظمات التطوعية، وحديثنا اليوم حول قيم العمل التطوعي تجاه الجمهور المستفيد، وهم المستهدفون الأهم من وجود المنظمات التطوعية؛ تحقيقا لمبدأ التكافل بين أفراد المجتمع لتحقيق أمن ورفاهية المجتمع بشكل عام، واضعين نصب أعيننا قول الله تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره} [الزلزلة: 7]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: “أحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينا” [صحيح الترغيب، ح: 955].
ثالثا- قيمنا تجاه الجمهور المستفيد:
- نقدم خدماتنا للجمهور بكل حب، دون انتظار شكر أو تقدير: نظرا لحرص العاملين في المجال التطوعي على خلوص نيتهم لله عز وجل في عملهم؛ فالمرجو عندهم تحقيق رضا الله عز وجل عنهم، مع إدراكهم أن رضا الناس مؤشر على قبول العمل؛ لذا فهم يقدمون الخدمة للجمهور المستهدف بكل محبة وسرور، ولا يجعلون شكر الناس لهم من عدمه سببا في استمرارهم في الخدمة، فهم مستمرون بجميع الأحوال، ولهم في الأنبياء والمرسلين الأسوة الحسنة، فقد أخبر ربنا عز وجل بأنهم لا ينتظرون من الناس جزاء ولا شكورا، قال الله تعالى على لسان سيدنا نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم السلام: {وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على الله} [الشعراء: 109، 127، 145، 164، 180]، ومن صفات الأبرار كما قال الله تعالى: {ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا . إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا} [الإنسان: 8-9]، ويبين لنا النبي صلى الله عليه وسلم أحب الناس إلى الله تعالى بقوله: “أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس”، ويبين أحب الأعمال إلى الله تعالى بقوله: “سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينا، أو تطرد عنه جوعا، ولأن أمشي مع أخ في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد -النبوي- شهرا … ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى تتهيأ له أثبت الله قدمه يوم تزل الأقدام” [سير أعلام النبلاء تخريج الأرناؤوط 14/124].
-
ينبغي على العاملين في المنظمات التطوعية ألا يجمعوا على الفقير مذلة المن والأذى مع مذلة الحاجة والفقر
- نحافظ على كرامة المستفيدين ونحترم خصوصيتهم: كفى بالفقر مذلة، لذا ينبغي على العاملين في المنظمات التطوعية ألا يجمعوا على الفقير مذلة المن والأذى مع مذلة الحاجة والفقر، وقد رتب الله عز وجل إحباط العمل وإبطال الصدقة بلحوق الأذى والمنّ على المتصدق عليه، قال تعالى: {قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم * يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى} [البقرة: 263- 264]؛ فخطيئة المنّ والأذى أكبر من ثواب الصدقة، ورهب النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك فقال: “لا يدخل الجنة منّان” [صحيح النسائي، ح:5688]، والمنّان: الذي يمنّ على الناس في عطائه؛ بذكره لهم، وإظهاره في الناس. وقال تعالى: (وأما السائل فلا تنهر) [الضحى: 10] فلا تنهر: أي لا تستقبله بكلام يزجره، وعلى العاملين في استقبال الحالات في الجمعيات الخيرية أن يفقهوا هذه التوجيهات جيدا، فلا نضيق ذرعا بالسائل الذي يتقدم للمساعدة وإن كان غير مستوف للشروط فنرده ردا لينا جميلا، وقد حبب النبي صلى الله عليه وسلم إلينا صدقة السر حفاظا على كرامة الفقير وصونا للإخلاص، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “صدقة السر تطفئ غضب الرب” [مجمع الزوائد 3/118]، ومن الأخطاء التي تقع فيها بعض المنظمات التطوعية تصوير المحتاجين بغرض تسويق حالاتهم بغرض سد احتياجاتهم، وهذا العمل نحسبه يدخل في الأذى على الرغم من صلاح نية القائمين على ذلك، والصواب هو تحري الدقة ومراعاة نفسية الفقير، فعند التصوير لا بد من عدم إظهار ما يدل على الفقير من وجه أو عنوان أو نحو ذلك.
-
عمدت كثير من المنظمات التطوعية لاستحداث قسم التدريب والتطوير ليكون جزءا لا يتجزأ من منظومة العمل التطوعي
- نقدم الخدمة للجمهور بكفاءة واحتراف: والخدمة هنا تشمل المعطي والآخذ، فكلاهما ضمن الجمهور المستهدف، وخدمة المعطي (المنفق) تشمل حسن الاستقبال، وصدق التعامل، وحسن العرض، والتواصل الفعال، وتقديم التغذية الراجعة من تقارير وتوثيق، وخدمة المتلقي (متلقي المساعدة) أيضا لا تقل عن خدمة المعطي، فلا بد من حسن الاستقبال والإنصات، وتهيئة المكان المناسب لاستقبالهم، وتسهيل الإجراءات، وتذليل العقبات، ونحو ذلك. وهذا كله من باب الحرص على إتقان العمل الذي أمرنا به النبي صلى الله عليه وسلم، ومعنى إتقان العمل: القيام به وإنجازه على أحسن وجه ممكن، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “إن الله عز وجل كتب الإحسان على كل شيء” [رواه ابن ماجه، ح: 3170]، ويكون النجاح في العمل على قدر إتقانه، وكذا يتضاعف الثواب بتحقق الإخلاص والإتقان، وعليه فلا بد من تدريب العاملين على هذه المهارات حتى يتقنوها، لذا عمدت كثير من المنظمات التطوعية لاستحداث قسم التدريب والتطوير ليكون جزءا لا يتجزأ من منظومة العمل التطوعي، والتدريب لا يقتصر على العاملين -الموظفين- في العمل التطوعي، بل لا بد من استهداف الفقراء في التدريب والتأهيل كي يتمكنوا من دخول سوق العمل، ومن ثم الخروج من دائرة الأخذ إلى دائرة الاكتفاء وصولا إلى دائرة البذل والعطاء.
- نراعي اختلاف أحوال الجمهور والفروق الفردية بينهم: تختلف ظروف الناس وأحوالهم، فما يصلح لحالة قد لا يصلح لغيرها، فمن كان غنيا ثم طرأ عليه الفقر حاله ليس كحال من اعتاد الفقر، وحاجات الناس تتفاوت بحسب متطلبات الحياة والتزاماتها، وما أوضح تعريف النبي صلى الله عليه وسلم للمسكين إذ يقول: “ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده التمرة والتمرتان، واللقمة واللقمتان، والأكلة والأكلتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يسأل الناس شيئا” [رواه أحمد]، فهناك من المحتاجين من يسأل الناس فتكفى حاجته، وهناك آخرون لا يسألون شيئا، وفيهم نزل قول الله تعالى: {للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف} [البقرة: 273] فهم لا يستطيعون السعي للتسبب في طلب المعاش، ولأنهم لا يسألون يحسبهم الجاهل بأمرهم أغنياء، ولكي نعرفهم لا بد من بذل الجهد وإعمال الفراسة، قال تعالى: (تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا) [البقرة: 273]، والذين يسألون الناس إلحافا هم أولئك الذين يلحون في المسألة ولهم ما يغنيهم عن السؤال.
وإلى لقاء آخر إن شاء الله مع الجزء الأخير من سلسلة قيم العمل التطوعي، وهو بعنوان: “قيمنا تجاه بعضنا البعض”.