الكرم خُلق عظيم من مكارم الأخلاق، وجميل الخصال التي تحلَّى بها الأنبياء، وحثَّ عليها المرسلون؛ فمَنْ عُرِفَ بالكرم عُرِف بشرف المنزلة، وعُلُوِّ المكانة، وانقاد له قومُه، فما ساد أحد في الجاهلية ولا في الإسلام، إلا كان من كمال سُؤدده، وتحليه بالكرم، و«الكرم هو الإعطاء بالسهولة»(1).
والكرم إن كان بمال فهو جود، وإن كان بكفِّ ضرر مع القدرة فهو عفو، وإن كان ببذل النفس فهو شجاعة(2).
وصاحب الكرم لا بد أن يكون شديد التوكل، عظيم الزهد، قوي اليقين؛ ولذلك فإن الكرم مرتبط بالإيمان ظاهره كرم اليد ودافعه كرم النفس، وقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمن بقوله: «المُؤمِنُ غِرٌّ كريمٌ، والفاجرُ خِبٌّ لئيمٌ»(3).
وقد وردت آيات قرآنية كثيرة تحث على الكرم والجود، منها قوله تعالى: (مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة: 261)، قال ابن كثير: «هذا مثل ضربه الله تعالى لتضعيف الثواب لمن أنفق في سبيله وابتغاء مرضاته، وأن الحسنة تضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف»(4).
وحث النبي صلى الله علسه وسلم على الجود والكرم في أحاديث كثيرة، منها قوله صلى الله عليه وسلم: «.. ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه»(5).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دينارٌ أنفقْتَهُ في سبيلِ اللهِ، ودينارٌ أنفقتَهُ في رقَبَةٍ، ودينارٌ تصدقْتَ بِهِ على مسكينٍ، ودينارٌ أنفقتَهُ على أهلِكَ، أعظمُهما أجراً الذي أنفقْتَهُ على أهلِكَ»(6).
قال النووي: «في هذا الحديث فوائد، منها: الابتداء في النفقة بالمذكور على الترتيب، ومنها أن الحقوق والفضائل إذا تزاحمت، قُدم الأوكد فالأوكد، ومنها أن الأفضل في صدقة التطوع أن ينوعها في جهات الخير ووجوه البر بحسب المصلحة، ولا ينحصر في جهة بعينها»(7).
وقال ابن المبارك: «سخاء النفس عمّا في أيدي الناس أعظم من سخاء النفس بالبذل»(8).
صور الجود والكرم:
أولاً: الكرم والعطاء من المال، ومن كل ما يمتلك الإنسان من أشياء ينتفع بها، وكل مأكول، أو مشروب، أو ملبوس، أو مركوب، أو مسكون، أو أي شيء مادي يمكن أن يفيد الآخرين.
ثانياً: العطاء من العلم والمعرفة، وهذا باب واسع، ويمكن للمعلم والأستاذ أن يفيض على طلابه بالعلم والمعرفة ولا يبخل عليهم، فيبذل علمه الذي جعله الله تعالى وديعة عنده.
ثالثاً: كرم النصيحة، فالإنسان الجواد، كريم النفس، لا يبخل على أخيه الإنسان بأي نصيحة تنفعه في دينه أو دنياه، بل يعطيه نصحه الذي ينفعه مبتغياً به وجه الله تعالى.
رابعاً: كرم النفس؛ فالكريم يعطي من جاهه، ويعطي من عطفه وحنانه، ويعطي من حلو كلامه وابتسامته وطلاقة وجهه، ويعطي من وقته وراحته، ويعطي من سمعه وإصغائه، ويعطي من حبه ورحمته، ويعطي من دعائه وشفاعته، وهكذا إلى سائر صور الكرم من النفس.
خامساً: الكرم والعطاء من طاقات الجسد وقواه، فالكريم يعطي من معونته، ويعطي من خدماته، ويعطي من جهده، ويميط الأذى عن الطريق والمرافق العامة، ويمشي في مصالح الناس، ويتعب في مساعدتهم، ويسهر من أجل معونتهم وخدمتهم، إلى سائر صور العطاء والكرم من الجسد(9).
ذم البخل وعواقبه:
البخل رذيلة عواقبها وخيمة، وآثارها سيئة على الإنسان في حياته وبعد مماته في آخرته، يقول الله تعالى: (وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (آل عمران: 180)، حيث يجعل الله للبخيل مما بخل به طوقاً حول عنقه، فكلما منع البخيل نفسه من العطاء ازداد الطوق ثقلاً.
والبخلاء جعل الله عاقبتهم رسوخ النفاق في قلوبهم إلى يوم لقائه، يقول عز وجل: (وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ {75} فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ {76} فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ) (التوبة)، أي فلما رزقهم الله تعالى؛ أي المنافقين، بخلوا به وتولوا وهم معرضون؛ أي بخلوا في الإنفاق ونقضوا العهد وأعرضوا عن طاعة الله ورسوله.
وقال صلى الله عليه وسلم: «إِيَّاكُمْ والشُّحَّ؛ فإنَّهُ دعا من كان قبلَكُمْ فَسَفَكُوا دِماءَهُمْ، ودعا مَنْ كان قبلَكُمْ فَقَطَّعُوا أَرْحامَهُمْ، ودعا مَنْ كان قبلَكُمْ فَاسْتَحَلُّوا حُرُماتِهمْ»(10)، وقال صلى الله عليه وسلم: «مثلُ البخيلِ والمنفقِ، كمثلِ رجلينِ عليهما جُبتانِ منْ حديدٍ، منْ لدنْ ثدييهمَا إلى تراقِيهما، فأَما المنفقُ: فلا ينفقُ شيئاً إلا مادتْ على جلدِهِ، حتى تُجِنَّ بَنانَهُ وتَعفُوَ أثرَهَ، أمَّا البخيلُ: فلا يريدُ إلا لزمتْ كلُّ حلقةٍ موضعَها، فهوَ يوسعُها فلا تتسعُ، ويشيرُ بإصبعهِ إلى حلقِهِ»(11)، وقال صلى الله عليه وسلم: «خصلتان لا يجتمعان في مؤمن: البخل وسوء الخلق»(12)، وكان صلى الله عليه وسلم يستعيذ من البخل، فيقول: «اللهم إني أعوذ بك من البخل وأعوذ بك من الجبن وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر»(13).
_______________________________
(1) التعريفات، الجرجاني، 236.
(2) موسوعة الأخلاق، علوي بن عبدالقادر السقاف، الدرر السنية (4/ 31).
(3) سنن أبي داود، حديث رقم (4790).
(4) تفسير القرآن العظيم، 325.
(5) صحيح البخاري، حديث رقم (6136).
(6) صحيح مسلم، حديث رقم (995).
(7) شرح النووي على صحيح مسلم (7/ 81).
(8) ربيع الأبرار ونصوص الأخيار، الزمخشري ( 4/ 357).
(9) موسوعة الأخلاق، السقاف (4/ 38 – 39).
(10) صحيح الترغيب، 2603.
(11) صحيح البخاري، 1239.
(12) صحيح الترغيب، 2608.
(13) صحيح النسائي، 5462.