تمكّن الصهاينة من تنفيذ مسيرة الأعلام في 29 أيار/ مايو 2022م، كما نفذوا في صباح اليوم نفسه مجموعة كبيرة من الاقتحامات لساحات المسجد الأقصى. وبالرغم من التصعيد الكبير الذي سبق المسيرة، إلا أنه لم تحدث حرب كما توقّع كثيرون. وبعيداً عن الشامتين والمتربِّصين، فإن قطاعات واسعة من المحبين والغيورين أصابها إحباط أو قلق أو ثارت لديها تساؤلات عن إنفاذ “معادلة الردع” التي أنشأتها المقاومة في معركة سيف القدس في السنة الماضية.
وثمة ست نقاط نود الإشارة إليها:
النقطة الأولى مرتبطة بحالة “التناسب” بين التصريحات السياسية والإعلامية لقوى المقاومة وعلى رأسها حماس، وبين الاستعدادات القتالية الفعلية لخوض المعركة ودخول غزة الحرب عند الوصول إلى “خط أحمر” معيّن. فقد كانت تصريحات المقاومة قوية وتصعيدية وتهديدية، وكان بعضها حول المساس بالأقصى دون تحديد شكل المساس، وبعضها ضد إنفاذ مسيرة الأعلام. وبالنسبة لعامة الناس فقد قاسوا على ما جرى السنة الماضية، وارتفع منسوب توقعاتهم مع اللغة التصعيدية التي سمعوها؛ ولم يكن ثمة وضوح حول “النقطة الحرجة” التي على أساسها ستدخل غزة الحرب.
وابتداء فإن التهديد والتخويف والتخذيل هو جزء من الحرب السياسية الإعلامية التي تستخدمها الدول والقوى المختلفة في حالات الاشتباك بدرجاته المختلفة. كما أن من حق المقاومة أن تحدد الزمان والمكان المناسبين لخوض معاركها، دون أن تُفرض عليها من أي طرف. ويجب الإقرار بأن قطاع غزة خاض أعظم المعارك وقدم أغلى التضحيات في مواجهة العدو الصهيوني، وهو ليس بحاجة لشهادة من أحد، بعد أن غدا قلعة ومدرسة عالمية للمقاومة والصمود.
غير أن ما سبق، لا يمنع الغيورين على المقاومة من السعي لتجويد أدائها. إذ إن أجواء التصعيد رفعت التوقعات بدرجة أعلى بكثير، ولم تُراعِ “درجة التّناسب” المفترض مع وجود إحتمال بعدم إمكانية تنفيذ المقاومة لتهديداتها.
بالتأكيد، لا يمكن قياس كل شيء بـ”المسطرة”، ولكن ما فهمه كثيرون من التصريحات جعلهم يربطون بين التدخل العسكري وبين المسيرة واقتحامات الأقصى. إذ إن ما تعرض له الأقصى هذه المرة لم يكن أقل مما تعرض له السنة الماضية، بل زاد عن ذلك. فالمسيرة التي تمت كانت الأكبر منذ ثمان سنوات، وشارك فيها نحو 25 ألف يهودي صهيوني ساروا من باب العمود إلى ساحة البراق. وفي الصباح حدث نحو ثمانين اقتحاماً للأقصى شارك في كل اقتحام ما معدله خمسين يهودياً (ما مجموعه نحو 1,687 مقتحم). ومن ناحية ثالثة، أدخل الصهاينة اليهود طقوس “السجود الملحمي” لأول مرة بشكل منهجي مكشوف في الأقصى. كما رفعوا الأعلام الإسرائيلية في ساحات الأقصى دونما تدخل من الأمن الصهيوني. بمعنى أن الصهاينة اليهود لم يحاولوا فقط السير باتجاه التقسيم الزماني والمكاني، وإنما بالتعامل الواقعي مع الأقصى كساحة عبادة يهودية.
ولذلك، فإن تهوين البعض مما حدث في الأقصى، لمحاولة تفسير عدم دخول المقاومة في المعركة يبدو في غير مكانه. مع إدراكنا أن أجواء رمضان وأحداث الشيخ جراح كان لها أثرها في قرار الدخول في معركة سيف القدس.
ما نريد قوله هنا أن من حق المقاومة أن تختار معاركها وتوقيتاتها؛ ولكن أحد أغلى وأهم المزايا التي تمتعت بها، وخصوصاً حماس، طوال أكثر من ثلاثين عاماً هي “الثقة والمصداقية” التي رسختها بالدم، وبتَناسُب القول والعمل، وفي الإعلان عن مسؤوليتها عن عملياتها، بل وفي ضبط البعض لساعاتهم على مواعيد إطلاق صواريخ المقاومة. ومهما تكن الأسباب، فإن “رأس المال” هذا لا ينبغي خدشه، خصوصاً بالنسبة للجماهير وعامة الناس، الذين لديهم مخزون هائل من الإحباطات من الأنظمة والتنظيمات. فبعض التصريحات قد ترفع المعنويات مؤقتاً، لكنها قد تصبح مصدراً للإحباط وفقدان الثقة والمصداقية.
وعلى أي حال، فقد كان تصريح قائد حماس أبو العبد هنية موفقاً، عندما ذكر بعد انتهاء المسيرة، أن انتهاكات الصهيونية لن تغتقر، في الوقت الذي ترك فيه المجال مفتوحاً لأشكال الرد المحتملة.
النقطة الثانية أن الجانب الإسرائيلي استفاد من تجربة سيف القدس، ليتابع إجراءاته في الاعتداء على الأقصى والقدس. فقام بعمل كافة الترتيبات اللازمة لإنجاح الاقتحامات ومسيرة الأعلام، ونشر آلاف الجنود والشرطة، وأغلق مداخل القدس، ومنع دخول المقدسيين للأقصى إلا بأعداد محدودة جداً. في الوقت الذي سعى فيه لتجنب الحرب مع قطاع غزة مع التهديد بجاهزيته لدخولها، حيث تلقّت قوى المقاومة “سيلاً” من الاتصالات الإقليمية والدولية، دخلت بدرجة ما ضمن حسابات اتخاذ القرار.
كما استفاد الجانب الإسرائيلي من تماسك ائتلافه الحاكم، ومن بقاء القائمة العربية الموحدة في الحكومة وعدم انسحابها. فقد خيّبت هذه القائمة آمال جمهور عريض كان يتوقع أن الممارسات الصهيونية في الأقصى والقدس ستؤدي للتَّسبب في إسقاطها للحكومة؛ خصوصاً بسبب خلفية قيادتها الإسلامية، ودورها التاريخي والمستمر في دعم القدس والأقصى. ويظهر أننا نقف مرة أخرى (مع الإسلاميين) أمام إشكاليات كيفية تحديد “مناط المصلحة” و”فقه الأولويات” و”فقه الضرورة”، وكيف أخذ الأمر مدى بعيداً في التساوق والتداخل مع أجندات يراها معظم المسلمين وعلماؤهم معادية للأمة ومدمرة لمصالحها. وهذا يشبه بدرجة أو بأخرى ما وقع فيه حزب الحرية والعدالة في المغرب عندما تمّ التطبيع مع العدو الصهيوني في الوقت الذي كان يتولى فيه رئاسة الحكومة.
النقطة الثالثة هل ثمة ضرورة للربط بين ما يحدث في القدس وبين دخول غزة في الحرب؟! إذ إن “معادلة الردع” التي جرى الحديث عنها خلال الفترة التي تلت معركة سيف القدس، لم تكن معادلة واضحة المعالم، ولم تُحدِّد خطوطاً حمراء معينة للعدوان على الأقصى. فالقدس التي هي تحت جبروت الاحتلال ووحشيته وطغيانه، استمر فيها العدوان الصهيوني المنهجي، كما استمرت اقتحامات المستوطنين للمسجد الأقصى على مدار العام. بل إن منتصف نيسان/ أبريل 2022 شهد أحد أسوأ الاعتداءات الصهيونية على المسجد الأقصى منذ 55 عاماً، حينما اقتحمه الجنود الصهاينة ببساطيرهم وأوقعوا خمسين إصابة، واعتقلوا 480 مرابطاً.
ونحن كما ندرك قوة المقاومة في غزة، وشجاعة وإقدام قيادتها، واستعداداتها العالية للتضحية وللانتصار للقدس والأقصى؛ فإننا ندرك أن الحروب لا تُخاض كلّ يوم، وندرك إمكانات غزة وطبيعة تموضعها الاستراتيجي واللوجستي، وحالة الحصار الإسرائيلي والعربي والدولي، وندرك أن جراحها من حربها الأخيرة لم تندمل بعد. وندرك أن دولاً كبيرة في المنطقة تتجنب خوض معارك مع الكيان الصهيوني، ولا تردُّ عليه في مناطق سيطرته الجغرافية، هذا عوضاً عن دولٍ مُطبعة مهرولة لاسترضاء الإسرائيلي، بل ومستعينة به على خصومها في المنطقة.
إن تضخيم التوقعات من القطاع، وتضخيم الإمكانات المتاحة، وتضخيم الدور المطلوب، هو الوجه الآخر للتقليل من المقاومة وبطولاتها وإنجازاتها. وفي كلا الحالتين فإن إساءة التقدير تضخيماً أو تبخيساً، قد تؤدي إلى الانجرار إلى قرارات خاطئة، وإلى دفع أكلاف أعلى غير متناسبة لا مع الأهداف ولا مع الإمكانات ولا مع إدارة المرحلة. ولذلك، فإن على أولئك “المُحبين” للمقاومة أن يُحسنوا النصح، ويحسنوا تقدير عناصر القوة والضعف والمخاطر والفرص، ويحسنوا فهم العناصر السياسية والعسكرية والاقتصادية والحواضن الشعبية، لا أن يكونوا أسباباً في “التوريط” أو “سوء التقدير”؛ إذ إن صناعة القرار وتقدير الموقف ليست مجرد “حالة حبّ” ولا أمراً تعبوياً ولا إعلامياً.
وهذا بالطبع لا يمنع من أن تدخل المقاومة معاركها في الوقت المناسب، أو عندما تضطر لذلك، عن قوةٍ واقتدار.
النقطة الرابعة تشير إلى ضرورة مضاعفة الجهود لدعم أهلنا في القدس وباقي الضفة الغربية. إذ يجب ألا يتمكن العدو الصهيوني من الاستفراد بالقدس، ويجب أن يُدعم الحراك الشعبي والانتفاضي في القدس بكافة أشكاله. لقد نجح أهلنا القابضون على الجمر في القدس في إفشال الكثير من المخططات الصهيونية وبرامج التهويد، وهم بحاجة دائمة إلى دعم صمودهم وثباتهم، وتطوير أدائهم المقاوم. كما أن تعزيز أداء باقي الضفة الغربية في العمل المقاوم هو مهمة ملحة، حيث يوجد احتكاك يومي ومباشر مع الاحتلال الصهيوني. وقد كانت العمليات البطولية الفردية النوعية التي هزّت الكيان في الأشهر الماضية نموذجاً على التأثير الهائل لمقاومة قام بها أفراد أبطال، وبـ”حسابات بجدوى” عالية مقارنة بغيرها، مع اعتقادنا أن كل قطرة دم فلسطينية لا تقدّر بثمن.
كما أن على أهلنا في فلسطين المحتلة 1948 أن يضاعفوا دورهم في حماية القدس والمقدسات. ومع تقديرنا لدورهم المشهود، فإن تصاعد الهجمة الصهيونية على الأقصى والقدس تقتضي مزيداً من الجهود والتضحيات.
النقطة الخامسة هي تفعيل دور فلسطيني الخارج، خصوصاً في البيئة الاستراتيجية الحيوية المحيطة بفلسطين، للقيام بدورهم كاملاً في إسناد أهلهم في الداخل وفي مشروع التحرير والعودة.
النقطة السادسة والأخيرة، فإن قضية الأقصى والقدس تظل قضية أمة، ولا بدّ لهذه الدائرة أن تأخذ دورها، بالرغم مما نراه من محاولات العزل والتهميش والإلهاء التي تعاني منها شعوب أمتنا، في ظلّ أنظمة فاسدة مستبدة. غير أن هذه الأمة أثبتت أصالتها طوال عشرات السنوات، ولم تتوان في دعم فلسطين وقضيتها، وظلت وستظل الحضن الدافئ للمقاومة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا المقال هو نسخة موسعة عن النص الذي نشر في موقع “عربي 21″، أمس 10 يونيو 2022م.