لنحو أسبوع تقريبا، غابت الأخبار العاجلة من مناطق القتال في مدينة سيفيرودونتسك بمنطقة لوغانسك، مما أعطى الإعلام الأوكراني مبررا للحديث عن توقف تقدم القوات الروسية ووقوعها في “أفخاخ تكتيكية”، ونفاد مواردها من الصواريخ والذخيرة، وفقدان إستراتيجية واضحة ومنظمة، وتكبدها خسائر فادحة، قبل أن تعلن وزارة الدفاع الروسية أن خسائر القوات الأوكرانية في سيفيرودونيتسك بلغت 90% من الأفراد، بعد تطهير المناطق السكانية، وأن القتال يدور في المنطقة الصناعية.
ووفق خبراء روس، فإن للسيطرة على المدينة الواقعة في محافظة لوغانسك أهمية حيوية بالنسبة للقوات الروسية؛ إذ من شأن الاستيلاء عليها التأثير بشكل ملموس على الروح المعنوية للقوات الأوكرانية، كما حدث بعد استسلام المقاتلين الأوكرانيين والأجانب في مصنع آزوفستال في ماريوبول.
علاوة على ذلك، ومن وجهة نظر العمليات التكتيكية، فإن الاستيلاء على سيفيرودونيتسك سيعني تفرغ عدد كبير من مجموعات القتال التكتيكية الروسية لمعركة الاستيلاء على كراماتورسك وسلافيانسك.
ستالينغراد ثانية
ورغم اعتراف مراقبين عسكريين روس بأن الدفاعات الأوكرانية في سيفيرودونيتسك ما زالت قوية، فإن ذلك لا يمنع الافتراض بأن موسكو مصرة على تحقيق انتصار لا تشوبه ثغرات في السيطرة على المدينة الإستراتيجية؛ لأن المرحلة الثانية تهدف إلى تطويق وتقطيع وتدمير المجموعات الأوكرانية في كامل إقليم دونباس، كما حصل خلال الحرب العالمية الثانية عندما طوق الجيش السوفياتي القوات الألمانية بالقرب من ستالينغراد في أوائل عام 1943، لتبدأ بعدها نقطة تحول إستراتيجية في مسار الأعمال القتالية.
ويتزامن ذلك مع إجراء تغييرات في القيادة العسكرية للقوات الروسية في أوكرانيا، فتحت الأبواب على مصراعيها للتساؤل عن تغييرات محتملة في التكتيكات القتالية على مسرح العمليات في أوكرانيا.
ويميل الباحث في الشؤون العسكرية فيكتور ليتوفكين للاعتقاد بأن التغييرات التي طالت مؤخرًا القيادة العسكرية للقوات الروسية في أوكرانيا قد يتبعها تغير في نهج وتكتيك إجراء العمليات.
ويقول في حديث لـ”الجزيرة.نت” إنه بناء على ذلك لن يكون ضروريا الوصول إلى أهداف داخل العمق الأوكراني من خلال سلاح المدفعية أو المسيرات والإنزال باستخدام المروحيات، بل عبر تكتيكات تتجاوز المدن وتترك الحاميات الأوكرانية في العمق قبل حصارها والانقضاض عليها بعمليات استهداف دقيقة تقوم بها قوات خاصة في مهام الاستطلاع والتخريب داخل خطوط “العدو“.
ويضيف ليتوفكين أنه لا ينبغي القلق بشأن توقيت إنهاء العمليات الخاصة، مضيفا أنها تتحرك وفق الأهداف الإستراتيجية.
وردًا على سؤال حول عدم دخول القوات الروسية حتى الآن إلى المدن الحيوية في أوكرانيا، تساءل ليتوفكين “من قال إن خطط روسيا تشمل الاستيلاء على كييف وخاركيف ومدن أخرى؟“.
ويؤكد ليتوفكين أن لا أحد يعرف خطط القائد العام الروسي، وأنه حتى الآن لا توجد سوى فكرة غامضة عنها، وأن طبيعة سير العمليات الأخيرة، وتحديدًا معارك نوفودونيتسك، تشير بوضوح إلى استخدام تكتيك استدراج قوات وموارد الجانب الأوكراني إلى محيط وعمق التجمعات السكنية للدفاع عنها، وهو ما تم تحقيقه بالفعل، قبل الانقضاض عليها وقطع الطرق اللازمة لانسحابها.
الحد من الخسائر
بدوره، قال محلل الشؤون العسكرية إيغور كوروتشينكو إن التسرع في تحقيق نجاحات ميدانية للقوات الروسية ليس هو المطلوب في الظروف الراهنة، بل تقليل “خسائرنا إلى الحد الأدنى”، مؤكدًا في الوقت نفسه أن هزيمة القوات الأوكرانية في دونباس باتت قريبة جدًا.
ووفقا له، فإن القوات الروسية ستواصل استخدام الإستراتيجية التقليدية المتمثلة بتطويق قوات “العدو”، وإبقائها في مكانها، وتدمير مواقع القيادة، متابعًا أن التغيرات في الإستراتيجية العسكرية الروسية بدأت قبل ذلك، بعد أن أيقنت موسكو بفشل الرهان على أن تبرم كييف اتفاقية من شأنها أن تضمن الوضع المحايد لأوكرانيا، وعدم انضمامها إلى حلف الناتو وأي كتل عسكرية أخرى “موجهة ضد روسيا“.
ويتابع كوروتشينكو أن الانتقال إلى “تجويع” القوات الأوكرانية واستنزافها هو التكتيك الجاري العمل به حسب ما تشير إلى ذلك طبيعة المعارك مع الجانب الأوكراني، وهو ما بدا واضحاً في الاستيلاء المباغت على مناطق واسعة في نوفودونيتسك، بعد محاصرة القوات الأوكرانية هناك، ونفاد الذخيرة والوقود لديها، بحيث لن تتمكن الدبابات من التحرك وإطلاق النار.
ويضيف كوروتشينكو أنه “عندما ينتهي كل شيء عندهم، سيكون من الممكن دخول المدينة بالفعل”، ومواصلة المعارك حتى إعادة دونيتسك ولوغانسك إلى حدودهما الإدارية التاريخية، وهو ما يتم تنفيذه -برأيه- على مراحل وبشكل منهجي.
في الوقت ذاته، لا يستبعد الخبير الروسي أن تقوم موسكو، بالتوازي مع العملية الخاصة للسيطرة على دونباس، بفتح جبهة ثانية في جنوب أوكرانيا، معتبرًا أن من شأن ذلك إضعاف قوات الجيش الأوكراني.
ويلفت كوروتشينكو إلى وجود تقارير تتحدث عن وجود عسكري روسي في تلك المناطق، لا سيما في خيرسون؛ ما قد يعني بدء هجوم متزامن من هناك أيضا، وفق قوله.