من الشبهات التي ملأ أعداء سُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بها صحفهم الصفراء وقنواتهم المشبوهة وكرروها كثيراً شبهة أن الحديث النبوي تمت كتابته في قصور الخلفاء والأمراء، وقد تأثر كاتبو السُّنَّة الشريفة بأهواء أولئك الخلفاء والأمراء، مُلاك الدنيا، الذين كانوا يملكون الرفع والخفض والجاه والسلطان، والدرهم والدينار!
والهدف من وراء إثارة هذه الشبهة تصوير السُّنَّة في صورة أكاذيب وافتراءات على صاحب الرسالة، وأن الأحاديث النبوية المتداولة الآن بين يدي الأمة في كتب الجوامع والمسانيد والصحاح وغيرها، لم يقلها النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنها من اختراع أناس لا خلاق لهم وضعوها من أجل خدمة السلاطين والحكام، واشتروا بها ثمناً قليلاً؟
بيان بطلان هذه الشبهة
وهذه الشبهة لا تحتاج إلى أن نطيل الوقوف أمامها؛ لأنها من أكذب الأكاذيب، ونكتفي في الرد عليها بما يأتي:
أولاً: أن من له اطلاع على الحديث النبوي وأغراضه التي قيل من أجلها، وعلومه من حيث السند والمتن، لن يعثر على حديث صحيح واحد فيه محاباة للأمراء والحكام والسلاطين، بل سيجد فيها أحاديث كثيرة تشدد النكير على تصرفات ولاة الأمور مهما علا سلطانهم في الأرض، فهل لو كانت السُّنَّة كُتبت في قصور هؤلاء الأمراء تبعاً لأهوائهم كنا سنجد فيها مثل هذا الحديث: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قَالَ: “أفضل الجهاد كلمة عَدْلٍ عند سُلْطَانٍ جَائِر”(1)؟!
فأين هذا السلطان الذي سيسمح بتدوين هذا الحديث وأمثاله في قصره، ويمنح كاتبه العطايا والهدايا؟!
أليس في الحديث دعوة واضحة في التصدي للسلاطين والإنكار عليهم إذا وقعوا في معصية الله تعالى؟ والحديث يجعل مقاومة الظلمة من السلاطين أعلى مرتبة من مراتب الجهاد.
وكذلك هل لو كانت السُّنَّة قد دونت في قصور السلاطين والأمراء تبعاً لأهوائهم كنا سنجد فيها هذا الحديث: “من بايع أميراً عن غير مشورة المسلمين فلا بيعة له ولا للذي بايعه”(2)؟!
إن هذا الحديث يسد منافذ كثيرة يمكن من خلالها أن يستبد الحكام بأمور المسلمين، فمن هذا السلطان الذي سيسمح بكتابة هذا الحديث في قصره، ويمنح العطايا الجزيلة لمن كتبه؟!
إن هذين الحديثين، وغيرهما الكثير، كافيان في تبرئة السُّنَّة من هذه الشبهة المنكرة.
ثانياً: إن علماء الحديث أنفسهم كانوا لا يقبلون حديثاً في سنده رجل عُرف عنه التردد على السلاطين أو قبول هدايا منهم، أو كانت له حظوة عندهم، وهذا منهم احتياط عظيم لحماية السُّنَّة من الدخيل والعليل والمكذوب.
والتاريخ يؤكد أن علماء الأمة كانت علاقاتهم بالحكام والسلاطين قلقة، وكان العلماء يترفعون عن التردد على قصور الحكم، سواء كانوا فقهاء أو محدثين، وكانوا يتداولون فيما بينهم هذه العبارة التي تدل على خوفهم من مخالطة الأمراء في غير ضرورة: “شرار العلماء الذين يغشون الأمراء، وخيار الأمراء الذين يغشون العلماء”، فكيف يصح مع هذا اتهام علماء الحديث بأنهم كتبوها في قصور الأمراء والسلاطين، استجابة لأهوائهم وشهواتهم.
وما كان العلماء يتهاونون في الاحتجاج على الباطل وإن اعتصم الباطل بعروش الأمراء والسلاطين، ولنا أن نتخيل هذا الموقف العظيم:
دخل الإمام الزهري رحمه الله على الوليد بن عبد الملك فقال له الوليد: ما حديث يحدثنا به أهل الشام؟ قال الزهري: وما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: يحدثوننا أن الله إذا استرعى عبداً رعية –أي جعله حاكماً– كتب له الحسنات، ولم يكتب عليه السيئات، قال الزهري: باطل يا أمير المؤمنين، أنبي خليفة أكرم على الله، أم خليفة غير نبي؟ قال الوليد: بل نبي خليفة أكرم على الله من خليفة غير نبي، قال الزهري: فإن الله تعالى يقول لنبيه داود عليه السلام: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) (ص: 26).
فهذا وعيد يا أمير المؤمنين لنبي خليفة، فما ظنك بخليفة غير نبي؟! قال الوليد: إن الناس ليغووننا عن ديننا(3).
هكذا كانت شجاعة الزهري وجرأته على دحر الباطل ونصرة الحق، وهذه الواقعة جرت أحداثها في قصر الوليد بن عبدالملك حاكم زمانه، والزهري من أعلام علماء الحديث وموقفه هذا هو المنهج الذي سار عليه رجال الحديث الأتقياء البررة، فأين الزور الذي يروج له منكرو السُّنَّة في زماننا هذا من هذا الحق، الذي زين الله تعالى به خُدام سُّنَّة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.
ومن أراد المزيد من هذه “البطولات” فليرجع إلى سيرة الأئمة الأربعة؛ أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وابن حنبل، ليرى مواقفهم الناصعة أمام حكام عصورهم، وتشددهم في إقرار الحق ودفع الباطل، والاعتزاز بكرامة الإيمان والعلم.
فأبو حنيفة تؤدي به الجفوة بينه وبين الحكام إلى الزج في غياهب السجون المظلمة الظالمة، ويلقى منيته وهو مسجون كما في بعض الروايات، ومالك لما خالف هوى حكام عصره آذوه وخلعوا ذراعه وأصابوه بالأمراض، والشافعي يضيق به الأمراء ذرعاً ويطاردونه من قُطر إلى قُطر، دون أن يعطيهم ما يرجون منه، والإمام أحمد يقف كالطود العظيم شامخاً بإيمانه وعلمه ويحل به العذاب الظالم حتى يفقد وعيه، ولا ينحرف قيد أنملة نحو الباطل الذي كانوا يراودونه عليه، ولا ينسى التاريخ مواقف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وتلميذه ابن القيم رحمه الله.
هذه قبسات مضيئة سجلها التاريخ بأحرف من نور للفقهاء والمحدثين، الذين يتطاول عليهم الآن شرذمة لا خلاق لهم من بنى جلدتنا، ويتكلمون بلساننا، ويلبسون للناس جلود الضأن من اللين، وقلوبهم قلوب الذئاب، إنهم جنود إبليس وإن صلوا وصاموا وزعموا أنهم مسلمون، والله لهم بالمرصاد، (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ) (الشعراء: 227)(4).
____________________________________
(1) حديث صحيح رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد.
(2) هذا الجزء ورد في حديث طويل رواه عبدالله بن عباس رضي الله عنهما، المصدر: صحيح البخاري، تحت رقم (6830).
(3) كتاب “العقد الفريد”، المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)، جـ1 صـ 60.
(4) أصل هذه الشبهات من كتاب: “هذا بيان للناس.. الشبهات الثلاثون المثارة لإنكار السنة النبوية”، د. عبدالعظيم المطعني، مكتبة وهبة، طبعة 1420هـ/ 1999م.