في اليوم نفسه الذي قال فيه وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن: إن “حلم تونس بحكومة مستقلة أصبح في خطر”، وذلك في تصعيد للانتقادات الأمريكية لإجراءات الرئيس قيس سعيد لتعزيز سلطاته، التي سبق أن رد عليها بالقول: إنها تدخل غير مقبول، اتصل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بالرئيس التونسي ليعلن له دعم نظامه ويشيد بالاستفتاء ويصفه بأنه مرحلة مهمة، وبلغة دبلوماسية دعاه لفتح حوار تشارك فيه جميع الأطراف كخط رجعة يخفي بشجرة النصح غابة الحماية، وهي غابة تتمثل في العديد من الأذرع الإعلامية، والنقابية، والمالية، والفنية، وشبكة واسعة من الطابور الخامس الفرنسي في تونس الذي هاجم، بدوره، الانتقادات الأمريكية للانقلاب في تونس وتشكيكها في مساره، منذ 25 يوليو 2021، مروراً بالاستشارة الإلكترونية في أول السنة، وانتهاء باستفتاء 25 يوليو الذي تقول المعارضة: إن المشاركين فيه لم تتجاوز نسبتهم 23%، في حين تقول سلطات الانقلاب: إنهم 30%، ومع ذلك يشير الخبراء إلى أن النسبة الرسمية وفي القبول بها افتراضياً لا يمكن أن تكون أساساً لعقد اجتماعي جديد (دستور).
طابور باريس يهاجم واشنطن
ما إن عبر وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، والسفير الأمريكي الجديد جوي هود، عن قلقهما بشأن التطورات في تونس، حتى قوبلت تصريحاتهم بهجوم دبلوماسي ناعم، حيث استدعت “الخارجية” التونسية القائمة بالأعمال بالنيابة في السفارة لتقديم احتجاج أقرب إلى اللوم والاعتذار منه للاحتجاج، وهجوم من الحزام السياسي والإعلامي والنقابي للانقلاب وصل إلى حد المطالبة برفض قبول أوراق اعتماد السفير الأمريكي الجديد، والتوجه إلى تعدد الولاءات الخارجية وتنويع العلاقات بالتوجه شرقاً نحو الصين وروسيا إلى جانب فرنسا التي تعتبر تونس حديقتها الخلفية ولا تجد سياساتها في تونس أي معارضة من النخبة الفرانكفونية التي يطلق عليها البعض صفة التخمة.
إلى جانب بعض المنظمات الحقوقية الموالية لفرنسا؛ كالرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، التي تتعرض لانتقادات شديدة من المجتمع المدني والناشطين ليس بسبب انتماء عناصرها لليسار، وإنما لتحركها على أساس سياسي وأيديولوجي، حتى إن البعض يصفها بأنها رابطة الدفاع عن حقوق اليسار والشواذ، وبعض أحزاب موالاة النظام الفرانكفونية (اليسار منقسم بين مؤيد ومعارض للانقلاب مثل شخوص نظام بن علي تماماً).
إلى جانب ذلك، اصطف الاتحاد العام التونسي للشغل إلى طابور فرنسا، والبعض يعده من أهم مكوناته، حيث انتقد الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل نور الدين الطبوبي محاولة التدخل الأمريكي في الشأن الداخلي التونسي.
وقال الطبوبي، في تصريح مساء الجمعة الماضي، لـ”التلفزيون التونسي” الرسمي: إن تونس ليست ولاية من ولايات أمريكا حتى يتم التدخل في شؤونها.
واعتبر الطبوبي، في التصريح ذاته، محاولة أمريكا التدخل في الشأن الوطني التونسي أن ما حدث هو إهانة لنا كتونسيين.
لكنه لم يسبق له أو لأي قيادي نقابي يساري أن انتقد فرنسا وتدخلها في الشأن التونسي، بل تورد وسائل إعلام الموالاة التصريحات الفرنسية ومنها تصريحات ماكرون الأخيرة دون أي تعليق بل بشيء من الترحيب.
وكانت الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان قد طالبت، في بيان لها في 31 يوليو الماضي، قيس سعيّد بعدم قبول أوراق اعتماد السفير الأمريكي الجديد جوي هود؛ بسبب تصريحاته أمام لجنة العلاقات الخارجية بالكونغرس الأمريكي التي مسّت من السيادة الوطنية.
وكان وزير الخارجية الأمريكي بلينكن قد دعا، يوم الخميس الماضي، إلى الإسراع بإقرار قانون انتخابي جامع في تونس، يضمن أوسع مشاركة ممكنة في الانتخابات البرلمانية المزمع إجراؤها في ديسمبر المقبل، على أن تشمل من عارض أو قاطع الاستفتاء على الدستور، ولاحظ بلينكن بالخصوص، في بيان له نشرته “الخارجية” الأمريكية على موقعها، أن استفتاء تونس على الدستور اتسم بتدني نسب مشاركة الناخبين، معبراً عن انشغال بلاده من أن الدستور الجديد يمكن له أن يضعف الديمقراطية في تونس، ويحد من احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية، منوهاً بالدور الحيوي الذي يقوم به المجتمع المدني في تونس في بناء مستقبل سياسي جامع.
من الدبلوماسية إلى القوة الصلبة
الولايات المتحدة وإدراكاً منها على ما يبدو لدور فرنسا في تحريك بعض المنظمات التونسية ضدها صعّدت من حدة لهجتها حيال الانقلاب في تونس، ففي معرض حديثه، الثلاثاء الماضي، في حفل للقيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا، كرر وزير الدفاع الأمريكي أوستن الانتقادات الأمريكية للتطورات الأخيرة في تونس.
وقال: في جميع أنحاء أفريقيا، أولئك الذين يدعمون الديمقراطية والحرية وسيادة القانون يكافحون قوى الاستبداد والفوضى والفساد.
وأضاف أوستن: يمكننا أن نشعر بتلك الرياح المعاكسة في تونس التي ألهم شعبها العالم بمطالبته بالديمقراطية.
وتابع: الولايات المتحدة ملتزمة بدعم أصدقائنا في تونس، وفي أي مكان في أفريقيا، الذين يحاولون إقامة نظم ديمقراطية منفتحة تخضع للمحاسبة ولا تستثني أحداً.
سيناريوهات الخلاف الفرنسي الأمريكي
ويرى محللون أن فرنسا والولايات المتحدة قد يصلون إلى حل وسط يتمثل في إقناع سعيّد بالتراجع عن الخطوات التي اتخذها، ومنها تعديل الدستور الذي دخل حيز العمل به بعد الاستفتاء مباشرة، وإقرار قانون انتخابي يسمح للجميع بالمشاركة عن طريق القوائم وليس الأفراد كما يريد سعيّد، فإذا نجح هذا الاتفاق قد يبقى سعيّد إلى نهاية مدته؛ أي إلى عام 2024.
لكن بعض التحليلات ترى أن سعيّداً لديه مشروع، ويبدو أنه من غير الوارد التخلي عنه مهما كانت الظروف، ويعتبر نفسه مشروع شهادة كما كرر ذلك مراراً في السابق.
وبالتالي يرى البعض أن تولي وزير الدفاع الأمريكي الحديث في الشأن التونسي بدل وزير الخارجية يدل على أن الولايات المتحدة جادة في مسألة التغيير في تونس، لكن لا أحد بإمكانه التنبؤ بما ستقدم عليه الولايات المتحدة في المستقبل القريب، وماذا عسى فرنسا أن تفعله لإنقاذ مصالحها المهددة في تونس في حال أطيح بسعيّد بأي طريقة كانت؟ وهل بإمكان أدواتها في تونس الذين يسهرون في باريس أكثر مما يسهرون في تونس وبإمكانهم الذهاب إلى فرنسا متى يشاؤون، وبعضهم حملتهم في نفس الطائرة التي استقلها سعيّد عندما قابل ماكرون وقبَّل كتفيه، هل بإمكانهم نجدتها وممارسة نفس الدور الذي مارسوه بعد الثورة؟ أم ستكون للديمقراطية أنياب كما قال زعماء جبهة الإنقاذ الوطني في تونس؟