عن عمر ناهز الثالثة والتسعين عاماً، انتقلت إلى رحمة الله سيدة الأدب الاجتماعي الكاتبة الأديبة المصرية إحسان كمال، المولودة بجنوب مصر بالعسيرات، مركز جرجا، أقصى الصعيد، في 13 ديسمبر 1929، والمتخرجة في مدرسة الفنون (قسم التطريز) عام 1951، ورحلت يوم 25 يوليو 2022، ولكن الأسرة تكتمت عن الخبر لظروف عائلية صحية خاصة.
وقد نشأت إحسان كمال محمد بقرية العسيرات التابعة لمحافظة سوهاج بجنوب مصر، حيث كان والدها أحد أبرز رجال البوليس المصري، وكان يشغل وظيفة “مأمور بالوجه القبلي”، بعدما درس القانون في السوربون بفرنسا، وما عرف به من الحزم والجدية والثقافة الواسعة، والقدرة الفائقة على الإدارة والضبط والربط.
لم يفلت منها عبارة واحدة خادشة للحياء على مدى أكثر من 250 قصة وعشرات الأفلام والمسلسلات المأخوذة عن رواياتها وقصصها
ووسط أسرة تكونت من إحسان، وأشقائها: عيشة، ومحمد، الذي استشهد بحرب الاستنزاف التي أعقبت نكسة عام 1967، والعبقري علم الدين الحاصل على الدكتوراة في علم الحشرات (C.5 . D) الذي توفي في ريعان شبابه (44 عاماً)، وما زال اسمه يزين مدرج علم الحشرات بكلية العلوم بجامعة القاهرة، حيث يشهد له أساتذته وزملاؤه أنه قد تفوق في تخصصه على أستاذه العالم الشهير حامد جوهر، عميد معهد علوم البحار، وصاحب البرنامج التلفزيوني العلمي التاريخي “عالم البحار”.. بين هذه الأسرة، وبين زوجها سعد السيد عبدالوهاب، موجه التربية الرياضية ومدرس التربية البدنية بالكلية الفنية العسكرية، ومؤسس قسم التربية الرياضية بالكلية، عاشت إحسان كمال بين حزم وعلم الوالد، وعبقرية الأخ الشقيق، وحيوية وبطولة الزوج، وتقاليد وأعراق الصعيد الجواني، كما يقول المصريون، التي ظل أدبها يفوح به ظاهراً وباطناً، في القيم المتضمنة، والشخصيات والمواقف، والأجواء النفسية، والأحداث، والروايات والقصص التي تجاوزت 250 قصة، فلم تفلت عبارة واحدة من قلم إحسان كمال من تحت عين الرقابة الذاتية، على قاعدة “حارس البوابة” التي يعرفها كل دارسي الإعلام.
أنجبت إحسان كمال بنتاً وولدين؛ م. طارق، المقيم بإيطاليا، وم. أحمد، المقيم بالقاهرة، وعزة، الكتابة الصحفية، ودفعتي بإعلام القاهرة عام 1982م.
كما أنجبت إحسان كمال مئات القصص والروايات التي حصلت بها على حصيلة قيمة من الجوائز، منها جائزة نادي القصة مرتين عامي 1957 و1960، وجائزة إحسان عبدالقدوس للقصة القصيرة عام 1991، وجائزة محمود تيمور للقصة القصيرة، التي يقيمها المجلس الأعلى للثقافة على مستوى العالم العربي عام 1994، وذلك عن مجموعتها “ضيفة الفجر” الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 1991، كما حصلت على ميدالية المجلس الأعلى للفنون والأدب عن أحسن قصة عن معركة أكتوبر عام 1974.
الذين يلجؤون إلى الأدب العاري من المهزولين فكرياً وإبداعياً
وقد نشرت إحسان كمال أعمالها بمعظم الدوريات والصحف العربية على مدى عمرها الطويل، التي جمعتها بعد ذلك في مجموعات أهمها:
– “سجن الملكة” عام 1965 عن سلسلة الكتاب الماسي.
– “سطر مغلوط” عن هيئة الكتاب عام 1971.
– “أحلام العمر كله” عن روايات الهلال 1976.
– “الحب أبداً لا يموت” عن روايات الهلال.
– “أقوى حب” عن كتاب اليوم 1982م.
– “لحن من السماء” عن هيئة الكتاب 1978.
– “ممنوع دخول الزوجات” عن كتاب اليوم 1988.
– “ضيفة الفجر” عن هيئة الكتاب 1992.
– “قبل الحب أحياناً” عن دار قباء.
كما أفادت ابنتها الصحفية (عزة سعد) أن لديها عدة مجموعات قصصية لم تنشر.
لا أعرف ما يسمى بأدب المرأة إنما أعرف الأدب الإنساني الواعي المسؤول
أطلق بعض النقاد على أدب إحسان كمال مقولة: “إنه الأدب الخارج من بين أنياب الأسد”، في إشارة إلى قصتها الماتعة “من بين أنياب الأسد” المنشورة ضمن مجموعة “خيط لا ينقطع” الصادرة عن الهيئة المصرية العامة الكتاب عام 2012، التي تعالج فيها جشع الحارس عويس حارس عرين الأسد بحديقة الحيوان الذي دفعه جشعه إلى التحايل على عمله الأخلاقي النبيل، بعمل لا أخلاقي بالمرة، حيث كان يتحصل على رشوة مقدارها جنيه واحد عن كل طفل يسمح له عويس بتقديم الطعام للأسد، من يده مباشرة لفم الأسد، حتى جمع من ذلك 300 جنيه مصري، كانت بالتمام والكمال مرصودة لتحقيق رغبة عويس في شراء دراجة بخارية، إلى أن وقعت الواقعة والتهم الأسد الطعام المقدم له من أيدي الأطفال مع قطعة من يد الطفل البريء، فكان ما كان، ودخل عويس تحت طائلة القانون خلف القضبان، وكانت الثلاثمائة جنيه بالتمام والكمال هي حكم وكيل النائب العام بكفالة وليدخل عويس إلى قفصه الحديدي المحكم، المماثل لقفص الأسد الذي استباح عويس حرمته وحماه، كما انتهك حرمة الطفولة وبراءتها، لقاء تلك الجنيهات الدنيئة التي ابتزها من أيدي الأطفال الأبرياء.
كما كانوا يطلقون على إحسان كمال “ضيفة الفجر” في إشارة إلى مجموعتها التي تحمل نفس الاسم، الصادرة عام 1992 التي تمثل واحدة من أرقى مجموعات القصص الإنساني، التي كانت إحسان كمال تسبح فيها بمهارة واقتدار، قائلة: أنا لا أميل إلى ما يسمى “أدب نسائي” و”أدب رجالي”، فما أبدعه من روايات وقصص، وإن كانت المرأة هي العنصر الأبرز في مادته الأدبية من كل الزوايا، إلا أن الرجل هو العنصر المكمل للصورة، أياً كانت درجته أو دوره، فإن كفاً واحدة لا تصفق، وعصفوراً واحداً لا يصنع ربيعاً أبداً.. وقبل هذه “الضدية” أو “الندية” لا تصنع أدباً سوياً؛ لأن إرادة التحدي، وتعمد المخالفة غالباً ما يكون صادراً عن عقد، وشعور بالتدني أو القصور أو العجز، أما الصورة المثلى للأدب المعالج لحياة المرأة، فهو الأدب الذي يقدمها في صورتها المتكاملة أسرياً ومجتمعياً، وكما خلقها الله تعالى، وخلق منها زوجها.
أنجح صور المرأة هي التي خلقها الله على فطرتها السوية وخلق منها زوجها
وكانت إحسان كمال شديدة المهارة في التقاط حبات عقد قصصها، والإمساك بأطراف خيوط حكاياتها، من النماذج المحيطة بها عائلياً، واجتماعياً، ومهنياً، ومحلياً، وعالمياً، حيث كانت تعتبر الأسرة هي مستهدفها الأول، باعتبارها الكيان المقدس، والمؤسسة التي تتصارع من حولها كل مؤامرات الاختراق والخلخلة والتفكيك.
وعلى سبيل المثال، هناك قصة “خيط لا ينقطع”، التي حملت اسمها نفس المجموعة الصادرة عن اتحاد كتاب مصر، والهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2012، وهي آخر المجموعات الصادرة لها التي أكدت من خلالها فنياً أن كل الخيوط يمكن أن تتقطع إلا الخيط بين الأم وابنها، وهما مادة حياة الأسرة، في ظل الرعاية الوالدية، قلبياً وروحياً، ومادياً ومعنوياً، التي أكدتها ابنتها الزميلة عزة أنها قد عالجت موقفاً فعلياً بينها وبين ابنها طارق، وإن كانت القصة تحمل اسم “ممدوح” الابن، والأم “عطيات”.
وتجدر الإشارة إلى أن إحسان كمال قد صدرت لها مجموعة “آدم لن يطرد من الجنة مرتين” عن دار نشر فرنسية عام 1992، كما ترجمت لها أكثر من 15 قصة إلى الإنجليزية والروسية والسويدية والصينية والهولندية، كما حولت العشرات من أعمالها إلى مسلسلات وأفلام وسهرات تلفزيونية مثل مسلسل “فستان الفرح”، وأفلام “رجل اسمه عباس”، و”حل يرضي جميع الأطراف”، و”من القدم إلى الرأس”، و”مربعات السعادة”.. وغيرها.
تناول أعمالها بالنقد والتحليل كبار الكتَّاب والنقاد من أمثال الدكاترة عبدالقادر القط، وسيد حامد النساج، ونبيلة إبراهيم، ونهاد صليحة، والكاتب الصحفي مصطفى عبدالله الكبير، كذلك عقد عنها يوسف الشاروني فصلاً خاصاً ضمن تأريخه للقصة القصيرة، واختار لها بعض النماذج ضمن كتابه “الليلة الثانية بعد الألف”.
كما تناولت أعمالها المستعربة الروسية فاليريا كربتشينكو في دراسة خاصة.
مؤسسة الأسرة بناء مقدس يجب أن يعمل لصالحه كل المبدعين
وعلى الرغم من أنها كانت غارقة في القصص الاجتماعي، بما يحفل به من عواطف ووجدان، فإنها قد ذهبت في معالجة شؤون المرأة إلى الحد الأقصى، الذي لم يصدر فيه عنها عبارة واحدة خادشة للحياء، أو متجاوزة أخلاقياً، أو عابرة للتقاليد والأعراف، وقد حاول بعض العلمانيين غمزها في هذا الجانب قائلين: إن أدب إحسان كمال ليس به أي مشوقات أو مشاهد حارة للحب والعاطفة، التي هي أهم سمات أدب المرأة!
فأجابت بكل إباء: أي من يعمدون إلى وضع هذه المواد الحريفة إلى أدبهم عن النساء، لا يملكون المواهب الكافية لإنتاج أدب جيد، ومن ثم فإنهم يلجؤون إلى هذه التوابل والمواد الحارة الفاتحة للشهية عن سوء قصد، لعلها تكون “مقبلات” لهذا الأدب المكشوف.
وكان يحيى حقي، أمير القصة القصيرة، يعتبر إحسان كمال أبرز تلميذاته، وعلى الرغم من رمزيته وصحته وسنه المتقدم، فإنه كان يذهب إلى أي ندوة تذهب إليها تقديراً ودعماً واعتزازاً.
وهكذا كانت إحسان كمال نموذجاً للأدب الاجتماعي الفني الجميل، ومن ثم تمتعت باحترام وتقدير الجميع، منذ أن كانت عضواً تأسيساً باتحاد كتَّاب مصر إلى عضويتها بمعظم الجمعيات والهيئات الأدبية والثقافية إلى عضويتها لمجلس إدارة اتحاد الكتاب لعدة دورات متتالية، إلى أن لقيت ربها شهيدة المرض مصابة بـ”كورونا” بعد مشوار ثقافي وحضاري واسع وهادف وبناء.